د سعد الدين العثماني يكتب:5- انفصام العلاقات الجنسية عن أهدافها ومقاصدها

تحدثنا في مقال سابق عن أن أكثر العوامل تأثيرا على الأسرة في الغرب، شيوع الحرية الجنسية في المجتمع. كما تحدثنا عما سماه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان  Zygmunt Baumann: “الحب السائل”، واصفا العلاقات العاطفية والجنسية في مجتمع ما أسماه “الحداثة السائلة” بأنها عائمة ومرنة وواهية.

ويهمنا هنا أن نبرز أن الطابع السائل والمتقلب للنشاط الجنسي أدى بالخصوص إلى انفصال الجنس عن جميع مقاصده، كما انفصل عن “مجالات الحياة الأخرى انفصالا لم يشهده العالم من قبل”[1]، فقد أضحى النشاط الجنسي مرتبطا باللذة الآنية والمتعة العابرة دون غيرهما.

فانفصل الجنس في مستوى أول عن بناء الأسرة مع شيوع العلاقات الجنسية خارج الزواج، بل أضحت هذه العلاقات مبررا للاستغناء عن الزواج. وبفقدان بناء أسرة يفقد المرء “الأمن في المقام الأول والأخير، الأمن بمعانيه المتعددة: أمن القرب من يد العون في الشدائد، والتعزية في الأحزان، والمؤانسة في الوحدة، والغوث في المحنة، والمواساة في الفشل، والتهنئة في النجاح، والتلبية الفورية للحاجة عند طلبها” كما يقول باومان.

وانفصل الجنس في مستوى ثان عن الحب بوصفه علاقة إنسانية سامية، فانفصل “عن الوجود من أجل الآخر، عن التزام دائم غير محدود وبعزم أكيد من أجل سعادة شريك الحياة”، وتحول إلى علاقة عابرة استهلاكية مبتذلة.

ثم انفصل الجنس في مستوى ثالث عن الإنجاب أو التكاثر. وهذا بدأ في المستوى الأول بالتهرب من تبعات ومسؤوليات العلاقات الجنسية. وهو ما أدى إلى تناقص الإقبال على الزواج بشكل كبير على مدى العقود الأخيرة، والزهد في إنجاب الأطفال. وعدم الإنجاب يعني “موت النسل، وإهمال أكثر الواجبات أهمية، وعدم إنجاز أكثر المهام إلحاحية”.

ثم دخلت على الخط عدد من التطورات الطبية التي ساعدت على تكريس ذلك الانفصال بشكل غير مسبوق وذلك مثل بنوك المني والبويضات والتلقيح الاصطناعي المتعدد. وهكذا أضحى الطب اليوم ينافس في تجاوز وظيفة الإنجاب الطبيعي، خضوعا لطلبات سوق الاستهلاك والربح، يقول زيجمونت باومان:

“وبفضل ما يتوقع من الطب أن يفعله وما يرغبه تلامذة مدرسة السوق المتخصصة في الحياة الاستهلاكية، فالإمكانية الرائعة الوشيكة (…) تتمثل في القدرة على “اختيار طفل من كاتالوج لمتبرعين رائعين، مثلما اعتاد المستهلكون المعاصرون شراء البضائع واستلامها عن طريق البريد أو شراءها عبر إعلانات صحف الموضة، والحصول على الطفل الذي يختاره المستهلك في الوقت الذي يحدده …”[2].

ويتضمن هذا المستوى أيضا محاولات فصل العلاقات الجنسية ليس فقط عن الأسرة، ولكن أيضا عن البنوة وعلاقة القرابة. وهو ما سجله الأكاديمي الفرنسي بريجيت فويي بقوله:

“اليوم، يجعل الطب الحيوي من الممكن فصل ليس فقط النشاط الجنسي عن الإنجاب والإنجاب عن البنوة البيولوجية، ولكن أيضًا بين تنوع الشركاء الجنسيين والإنجاب، وبين الأمومة بالدم والأمومة بالولادة، مع مضاعفة الأشخاص المشاركين في ولادة طفل معين”[3].

وفي مستوى رابع ونتيجة لتلك المقدمات الثلاث، نشأ الانفصال بين الإنجاب والزواج. فانطلق منذ عقود الازدياد المطرد سنة بعد أخرى، للأطفال المولودين خارج إطار الزواج، فقد كانوا يمثلون إلى حدود عام 1980، أقل من 10٪ من المواليد في مختلف الدول الغربية، باستثناء الدول الاسكندنافية حيث النسبة كانت أعلى من ذلك. مع بداية تسعينيات القرن الماضي، مثلت المواليد خارج نطاق الزواج 16٪ من مجموع المواليد في أوروبا، ثم ارتفعت إلى الربع في عام 2000، وما يقرب من 45٪ في 2020، مع الإشارة إلى أن هناك فجوات كبيرة بين الدول الأوربية. ففي بعض الدول تتجاوز النسبة 55٪، وهذه الدول هي إستونيا والنرويج وفرنسا وبلغاريا وسلوفينيا وأيسلندا. لكن لا تزال تشكل أقل من 10٪ في اليونان[4].

وإذا أخذنا مثال فرنسا حيث الظاهرة أكثر استفحالا في أوربا، نجد أنه في عام 1990م، كان قد وُلد أكثر من 30٪ من الأطفال خارج إطار الزواج، مما يضعها في المرتبة الثانية بين الدول الأوروبية بعد الدنمارك. ومنذ الستينيات من القرن العشرين ازدادت النسبة، وتسارعت بشكل حاد لتصل عام 2022 إلى 63.8٪ من مجموع الأطفال المولودين أحياء. ويظهر الرسم البياني المرفق الارتفاع المتواصل والحاد لتلك النسبة منذ حوالي سنة 1980.

 

تطور نسبة الأطفال المولودين خارج الزواج في فرنسا

المرجع: المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية insee – فرنسا

على الرابط: https://www.insee.fr/fr/statistiques/2381394

لقد أدت مجموع هذه المقدمات في أغلب الدول الغربية إلى تراجع كبير- كما رأينا – لمكانة الأسرة واتساع نطاق الاستغناء عن الزواج والإقبال على المساكنة الحرة أو تفضيل حياة العزوبة والعيش وحيدا. وبرز الارتباط والمعاشرة الجنسية بين شخصين من جنس واحد، وبدأ تقنينه في عدد الدول.

وأصبحت الثقافة السائدة تقضي بكون نظام العلاقات الجنسية متعددة الشركاء “نموذجا تتحرر وتتفتح من خلاله الشخصية الإنسانية”[5]، وأضحى المخلصون في حياتهم الزوجية في كثير من الأوساط الغربية عاجزين عن “التجرؤ على التصريح به”[6]، كما كتبت أناتريللا منذ أكثر من ثلاثين سنة.

وبهذا يتبين أن التهديد اليوم هو تهديد بنيوي وجودي بالنسبة للأسرة، وليس فقد تهديدا يتعلق بمشاكل جانبية أو تحديات عرضية. وهو ما يجب أن تأخذه بعين الاعتبار كل استراتيجية لحماية الأسرة حالا ومستقبلا.

[1]  – الحب السائل، ص 82,

[2]  – الحب السائل، ص 77

[3]  – Brigitte Feuillet : La famille à l’heure de la bioéthique, dans : Le lien familial à l’aube du XXIème siècle, Fondation pour le lirn social, Crois rouge français, p. 8

[4] – Sandra Bree : Unions et naissances en dehors du mariage, Encyclopédie d’histoire numérique de l’Europe [en ligne], ISSN 2677-6588, mis en ligne le 22/06/20, consulté le 05/05/2023. Permalien : https://ehne.fr/fr/node/12509

[5] – Tony Anatrella : Le sexe oublié, Flammarion, 1990.

[6] – Idem

أخبار / مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأسرة أصبحت مهددة بالتفكك نظرا لغياب التساكن والمودة والرحمة باعتبارهامقاصد كلية للزواج. ومما يهددها حرية الجنس والعلاقات الرضائية المتحررة بدون قيود باسم الحرية ونشر ثقافة الجنس بقوة في المجتمعات باعتباره محرك الاقتصاد والسياسات الدولية و المحلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى