دعاة إلى الله، لكن مترفون !! – بنداود رضواني
بدهيات في طريق الدعوة إلى الله
غوائل الدنيا وآفاتها لا حدود لها، وعيوبها وعوراتها لا حصر لها، وأما الذل فلصيق بمن تكبر فيها، والحسرة لازمة لمن اغتر بها، و مهما توهم المرء أن الدنيا قد صفت له وسلمت، أغرقته على حين غرة في يم المفسدات والكادورات، وإذا سرته لحظة، طوقته الأحزان والمنغصات لحظات و لحظات….
هذه المسلمات العقيدية، والبدهيات الإيمانية من أوائل ما يتشبع به عقل الداعية إلى الله وقلبه ابتداء قبل أن ينهض بمهمته الرسالية، ووظيفته الدعوية.
ومصداق هذا الأمر، مبثوت في الرسالات المتعاقبة والنبوات المترادفة، فما من رسول أو نبي الإ حذر من الاغترار بالدنيا، وأنذر من الإفتنان بها.
ومع ذلك، فهي في مقل المفتونين بها حلوة خضرة، وزهرة فاتنة، وجنة فيحاء للهو واللعب، على الرغم أن حقيقتها لا تعدو أن تكون متاعا… كسائر الأمتعة، وكالهشيم تذروه الرياح…، وهي أشد بلاء على دين المرء من الشرك، وأرهق للنفس من الفقر، بل هي الحطب الذي به توقد نيران التنافس والبغضاء والتدابر والتقاتل …. بين الناس، لأنهم ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) الروم/7. وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ” لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة “. قال عمر : ” وأنا أشفق من ذلك “، حدث به علي بن المديني في مسند الفاروق، وقال إسناده جيد.
” إنهم كانوا قبل ذلك مترفين “
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية من سورة الواقعة: ” أي قد ألهتهم دنياهم وعملوا لها وتنعموا، وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه “.
ويذكر ابن خلدون في المقدمة، أن الترف من أسباب ضعف الدين في النفوس، فيقول: “واعلم أن أثر الخصب في البدن وأحواله، يظهر حتى في حال الدين والعبادة، فنجد المتقشّفين من أهل البادية أو الحاضرة ممّن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن دينا، وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب”.
يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت متحدثا في مؤلف ” قصة الحضارة “، كتاب ” حياة اليونان ” عن علاقة الترف بانهيار بلاد اليونان: ” سرت في جميع بلاد اليونان موجة من نقص المواليد، ومن قلة السكان تبعاً لهذا النقص، نشأ عنها أن أقفرت المدن من السكان، وأجدبت الأرض فلم تعد تخرج ثمرها. ذلك أن الناس قد انغمسوا في الترف والبخل والكسل “
كما أرجع المؤلف نفسه في الجزء الخاص بالحضارة الرومانية، سقوط دولة البطالمة في مصر – فترة الحكم من 305 إلى30 قبل الميلاد – في يد روما، نتيجة لحالتي الانغماس في الرذائل والترف، والتي عمت البلاد، حيث يقول: “بدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد، وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم، وأفقدهم آخر الأمر القدرة على التفكير”. هذا عن اليونان والبطالمة، أضف إليهما الدولة العباسية، وبلاد الأندلس وغيرها من الأمم والحضارات البائدة، والسبب المباشر فمعلوم: إنه الترف… ” إنهم كانوا قبل ذلك مترفين”.
الدعاة وفخ المباحات
من القضايا المتداولة في الحقل الأصولي، أن الأصل في الأشياء والأفعال الدنيوية الإباحة، ما لم يصرفه دليل أو قرينة إلى غيره من الأحكام، وتعرف المساحة التي يشغلها المباح بمنطقة العفو.
وقد أشار المفكر المغربي عبد المجيد الصغير في كتابه: ” الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام ـ قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة ” إلى أن سبب اهتمام الشاطبي بالمباح يعود إلى ” الغموض المعرفي الذي يشكو منه المباح، سواء في الكتب الأصولية أو حتى في التداول اليومي في الحياة العملية، ذلك الغموض الذي يجعل معناه متردداً بين المندوب والواجب من جهة، وبين المكروه والمحرم من جهة أخرى “.
فالشاطبي إذن سعى إلى رفع الغموض، وتجلية الإلتباس عن المباح، وعيا منه بما قد تفضي إليه ممارسة المكلف لهذا القسم من أقسام الحكم التكليفي من انحرافات، إما في هيئة إفراط أو على صورة تفريط….
ولقد سقط نفر من الدعاة إلى الله في فخ هذا الإلتباس، خاصة في صورته الإفراطية، بالتوسع في المباحات، والإستغراق في الآلاء والنعم. وسبب ذلك: إما ضعف في التكوين الشرعي، والإفتقار إلى الثقافة المقاصدية، أو غلبة الهوى والإغترار بالشهوات، أو هما معا…
فالنتيجة إقبال على المباح بنهم وإفراط، وخضوع نفسي للملذات، ومعانقة للشهوات، فحب هذا النفر من الدعاة للدنيا يداني حب العوام لها، يبدو ذلك في الهوس بالأنيق من الملبس، واللذيذ من الطعام، والنفيس من الأثاث….فالمظهر مظهر داعية، لكن المخبر مثل يا أيها الناس..!!
إن اعتدال الداعية إلى الله في التنعم، والتوسط في الترفه، مطلب شرعي، وضرورة دعوية، لكن وظيفته الرسالية هي أن يجلي حقيقة هذه الدنيا للناس وفق المنهج القراني والنبوي، لأن الماديات تطوق الإنسان المعاصر من كل جانب، والشهوات تلاحقه بالليل والنهار. فهو محتاج لمن ينتشله من أمراض التسوق العبثي، ولمن يقدم له عقارا لداء الشراء القهري…
ولا يمكن أن ينهض بهذا العمل الرسالي في ساحة الدعوة، إلا أولئك الذين تخففوا من الترف المادي، والأعراض الدنيوية…، فاقتصدوا في المأكل، واعتدلوا في المركب والملبس….، هم أولا قبل غيرهم، وتخففوا من الترف حتى لا تصير ساحة الدعوة إلى الله ميدانا للتنافس الدنيوي، والتباهي الاجتماعي، والتدابر والاختلاف…
نعم تخففوا من كل ذلك، لكيلا يكونوا دعاة مترفين.