دعاء المخلصين – علي الطاهري جوطي
لقد خلق الله عز وجل الإنسان لأنه الله الواحد الأحد، “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” سورة الأنبياء آية 23، وبيّن الواحد الأحد لهذا الإنسان الغاية من خلقه في قوله ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” سورة الذاريات آية 56، عبادة تليق بجلاله وعظمته وهي الإحسان في كل شيء حسب المستطاع. فالقوي من المؤمنين سيفهم المستطاع أن الله عز وجل قد سخر له الكون ليتجول فيه ويتفكر فيه من أجل أن يقدر الله حق قدره ويعبده حق عبادته على أساس أنه خليفته في الأرض، والمنطق يقتضي أن من يخلف أحدا لا يعصيه أبدا مخافة الحرمان وفقدان المحبة والقرب من المستخلِف عز وجل.
وأجل العبادات التي يحتاجها المؤمن القوي هو اللجوء إلى الله عز وجل بإخلاص وصدق في كل أمره كبيره وصغيره لأنه يعرف ويعلم وتعلم وجرب أن لا مشيئة للإنسان إلا بقوة الله وحوله سبحانه، ويُظهر المؤمن القوي هذا المعنى في افتقاره الكلي إلى الله عز وجل عند الدعاء سواء في السراء أو الضراء، لأن الكل من عند الخالق عز وجل.
يقول المولى عز وجل :
“وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”سورة الأعراف آية 56.
“إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ” سورة غافر آية 60.
“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”سورة البقرة 186.
ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ”، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.رواه الترمذي وقال حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» أخرجه الحاكم. فمن تسلح بقوة الله، لا غالب له. كما يقال: إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك.
وكذلك العمل لله عز وجل وحده، نتيجته أن الله سبحانه يمدك من فضله بدون طلب لفظي، حيث أن العمل كان أصله شكرا لله عز وجل، إنه سميع بصير.
وهذا مثال للدعاء العملي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ – لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ – فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ “رواه مسلم.
وأسوق بعض حديث رواه البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم …وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ “رواه البخاري ح 3464.
نموذج آخر من مجابي الدعوة بعد أن أفرغوا الدنيا من قلوبهم:
حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: كُنَّا فِي الْبَحْرِ، فَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَهَاجَتِ الْأَمْوَاجُ، فَبَكَى النَّاسُ وَصَاحُوا، فَقِيلَ لِمَعْيُوفٍ أَوِ ابْنِ مَعْيُوفٍ – هَذَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، لَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ وإِذَا هُوَ نَائِمٌ فِي نَاحِيَةِ السَّفِينَةِ مَلْفُوفٌ رَأْسُهُ فِي كِسَاءٍ، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَمَا تَرَى مَا النَّاسُ فِيهِ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ قَدْ أَرَيْتَنَا قُدْرَتَكَ، فَأَرِنَا رَحْمَتَكَ» فَهَدَأَتِ السَّفِينَةُ.
ولنا أن نسأل كيف أصبح مجاب الدعوة؟ فعن يونس البلخي قال : كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف ، وكان أبوه كثير المال والخدم ، والمراكب والجنائب والبزاة فبينا إبراهيم في الصيد على فرسه يركضه ، إذا هو بصوت من فوقه : يا إبراهيم : ما هذا العبث ؟” أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا” اتق الله ألهذا خلقت ؟ أم بهذا أمرت ؟، عليك بالزاد ليوم الفاقة . فنزل عن دابته ، ورفض الدنيا. جعلها في يده ولم يجعل لها نصيبا من قلبه.
والحمد لله رب العالمين
علي الطاهري جوطي