حقيقة البلوغ والرشد والأشد في الإسلام
معاشر المؤمنين حديثنا اليوم غرضُه توضيحُ التأصيلِ لمسألة مهمة تتعلق بها كثير من الحقوق والواجبات، هذه المسألة هي مسألة سن الرشد و لها علاقة وطيدة بثلاث كلمات وردت في القرآن الكريم:بلوغ الحلُم أو بلوغ النكاح/ بلوغ الرُّشد/ بلوغ الأشُدّ، ناقشها الفقهاء فخرجوا لنا بثلاث مراحل عُمرية للإنسان حددوا فيها لكل مرحلة منهنَّ عدداً من السنّين يناسبها.
والمراحل الثلاثة هي: المرحلة الأولى: بلوغ الحُلُم أو بلوغ النكاح المعبر عنها اختصارا بالبلوغ، وكلمة الحلُم في القرآن الكريم جاءت في قوله تعالى:(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ، وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ، ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }(النور 58) وقد تقدم من قبل في هذه السورة استئذان الأجانب بعضهم على بعض في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)( النور) أما هذا ففي استئذان الأقارب بعضهم على بعض، فأمر اللّه تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خدمُهم مما ملكت أيمانهم وأطفالُهم الذين لم يبلغوا الحلُم منهم في ثلاثة أحوال الأول: من قبل صلاة الغداة ـ أي الفجر ـ لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فُرُشهم، الثاني:(وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) أي في وقت القيلولة، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، والثالث (ومن بعد صلاة العشاء، لأنه وقتُ النوم فيُؤمَر الخدمُ والأطفالُ أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يُخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال، ولهذا قال: (ثلاثُ عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جُناحٌ بعدهن) أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال الثلاثة، فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم، ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال، ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر اللّه بها في القرآن؟ فقال ابن عباس: إن اللّه سِتِّيرٌ يُحب السِّتْر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حِجال في بيوتهم(مفردُهُ حَجَلة كالقبة تُزين بالثياب و الستور للعروس)، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولدُه أو يتيمُه في حجره وهو على أهله، فأمرهم اللّه أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى اللّه؛ ثم جاء اللّه بعدُ بالستور، فبسط اللّه عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به “(أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده صحيح إلى ابن عباس).
وجاءت كلمة الحلم في قوله سبحانه:(وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }(النور 59)، يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
فما هو بلوغ الحُلُم؟ هو بلوغ سن النكاح وهو بلوغ جسدي جنسي توالدي، ويكون بخمسة أشياء: اثنان يختصان بالنساء وهما: الحيض والحَبل.وثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء(وهي الإحتلام وإنبات الشعر، والسن)، يقول ابن عاشر في المرشد المعين
وكلّ تكليفٍ بشرطِ العقلِ مع البلــوغ بدَمٍ أو حمْـــلِ
أو بمَنِيٍّ أو بإنْبَاتِ الشعـــرْ أو بثمانِ عشْرَةً حولاً ظَهَرْ
وليس بالضرورة أن يكون مع هذا النضج الجسدي نضج عقلي و عاطفي بل يكون ذلك في المراحل التالية التي تلي البلوغ وهي :الرشد وبلوغ الأشُد وكلمة (الرُشدُ أو الرَّشَد) في القرآن الكريم جاءت دائماً مربوطة بحسن التصرف في الأموال والأفكار والعقائد وهذه المرحلة مذكورة في ثلاثة عشر آية بتصاريف مختلفة منها 1- قوله تعالى:{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراًأَن يَكْبَرُواْ}(النساء6) يقول الإمام البيضاوي: (وَٱبْتَلُواْٱلْيَتَـٰمَىٰ) بمعنى اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهَدِّي إلى ضبط المال وحسنِ التصرف، أما قوله { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي حتى إذا بلغوا حدَّ البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة لقوله عليه الصلاة والسلام:”إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود “. أمّا بخصوص الرُّشد في قوله { فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً } فخلاصة ما قاله العلماء فيه :إنَّ الرشد هو العقل والمقصود به القدرة على التمييز، والصلاحُ في الدين، وحُسْنُ إدارة المال، والعلمُ بما يُصلحه وينفعه، والآية كما هو واضح فرقت بين بلوغ الحلم وبلوغ الرشد. فبلوغ الحلم له علامة مادية واضحة أهمها خروج المني ودم الحيض، أما بلوغ الرشد فمسألة متأرجحة ولهذا السبب تركها الله تعالى مطلقة للتقدير فقال تعالى:{فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً} أي أبصرتم ورأيتم وعلمتم فتعيّن اعتبار الرشد، ولكن يختلف إيناسُه أو علمُه بحسب اختلاف حال الراشد. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد بلوغ الحلم والحيض، ومن لم يرشد بعد بلوغ الحلُم لا يزول عنه الحَجْر ولا تزول عنه الوصاية وإن شاخ؛ وهو مذهب الإمام مالك وغيرُه، فإذا ثبت هذا فلا يُدفع المال لليتيم إلا بشرطين: البلوغ و إيناس الرشد، فإن وُجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال لليتيم، فلا تُدفع إلى اليتامى أموالُهم قبل البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم. فلا بد أن يجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مُكِّن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهواته وبَقِي صُعْلوكاً لا مال له.
معاشر المؤمنين بقي أن نتحدث عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة الشدة وكلمة أشُدَّهُ وردت في القرآن الكريم في سياق الحكمة والعلم وكمال التجربة الحياتية وهذه المرحلة مذكورة في عدة مواضيع وسياقات منها:1 – (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ)(يوسف 22) فلـما بلغ يوسف عليه السلام أشدّه أي لـما بلغ منتهى شدّته وقوّته فـي شبـابه، وذلك فـيـما بـين ثمانـي عشرة إلـى ستـين سنة، وقـيـل إلـى أربعين سنة،2ـ وفي قصة موسى عليه السلام قال: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ) (القصص 14) قال المفسرون بلغ أشده: ثلاثة وثلاثين سنة، واستوى: بلغ الأربعين. دليلهم قوله تعالى:(وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف 15).
أما معنى الأشُد في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء 34)، وقوله سبحانه:(وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ) (الأنعام 152) فتفسيره قال الليث: الأشُد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة، والشدة القوة والجلادة، والرجل الشديد القوي.
عباد الله خلاصة الموضوع هو أن فقهاء الإسلام هم أول من فرق بين سن بلوغ الجسم مرحلة الكمال بالإحتلام والحيض وبلوغ الرشد العقلي وأقل رقم نزلوا إليه في مسألة التكليف هو خمسة عشر عاماً وفي بلوغ الرشد اختلفوا ولكن وإذا وفقنا بين الآراء فسنجد أنَّ الثامن عشر هي السن هي الوسط في سن الرشد التي تلي سن التكليف لكن يبقى أن الشخص قد يبلغ الثامنة عشرة ويبقى غير راشد فيحجر عليه إلى أن يرشد.
ويجب أن نسأل أنفسنا هل مقصد الشريعة تأسيس الأسرة على البلوغ أم على الرشد؟ أم على كليهما؟ والجواب هو أن الشريعة تريد أن تبنى الأسرة على البلوغ من أجل الإنجاب واستمرارية النسل الإنساني وفي نفس الوقت تريد للأسرة أن تبنى على الرُّشد لتضمن إستمرارية الزواج وسعادة الأسرة كما حرص على مال اليتيم فنهت أن يدفع له ماله قبل سن الرشد وإن بلغ مرحلة الكمال الجسماني حتى لا يتبدد ماله فيقعد ملوماً محسوراً فيندم ويشقى.
ذ. سعيد منقار بنيس