حسن الإفراني يكتب: خواطر من وحي العمل الاسلامي (5)
2 – الشاي يدعو إلى الله؟!
سننقل النقاش من التأصيل والتجارب التاريخية إلى ما يجري في صفوف الحركة الإسلامية بخصوص الموضوع الذي قدمنا حلقته الأولى سلفا. كثيرا ما تعقد اللقاءات التنظيمية والتربوية والدعوية… للقطاع العام – ذكورا وإناثا- وكذا للشباب في البيوت أو في المراكز السوسيوثقافية أو دور الشباب أو في الهواء الطلق أو غيرها من الفضاءات التي قد تتنوع حسب طبيعة النشاط؛ إلا أن مناقشة فقرات كل نشاط على حدة كثيرا ما تطرح سؤالا متعلقا بمدى جدوى حضور الإطعام فيه من عدمه.
فما هي أبرز الاتجاهات المطروحة في مدى معقولية وفائدة حضور الإطعام في مثل هاته المناشط؟.
هناك على الأقل ثلاث اتجاهات في المسألة المطروحة:
الاتجاه الأول: التوسع في الإطعام
وهو اتجاه يجد جذوره في العادات والتقاليد الاجتماعية المنتشرة في القرى والمدن على حد سواء، سواء في التناوب على الاستضافة بين زمرة من الجيران عقب عيد الأضحى المبارك أو غيره، أو في المناسبات المعروفة كالزفاف والعقيقة والوكيرة.. وأضف إليها اليوم مناسبات العزاء، وكلها تقدم في شكل “زردة”.
صحيح أن لهذا الاتجاه إيجابيات تتجلى في مشاركة الغير في الأفراح والأتراح، وفي توطيد ونسج وشائج الأخوة، وكذا التعارف.. إلا أن له سلبيات أهمها التكلف الذي لا يحتمل في غالب الأحايين، سواء من المنفق – الأب أو الأخ الأكبر غالبا…- أو من لدن أهل البيت الذين يتكلفون بالإعداد.
الاتجاه الثاني: الاستغناء عن الإطعام
وهو أحد الاتجاهات التي يرى أصحابها بأننا إنما اجتمعنا لله وحده، ولا ينبغي أن يخالطه شيء من الدنيا فيفسده، وكأنهم يشيرون في هذا الصدد إلى مقولة الجنيد:” أنظر ماذا خالط قلبك.” كما أن أصحابه يعتبرون بأن الإطعام يتحول إلى حجر عثرة أمام فتح البيوت، مما قد ينجم عنه توقف العمل بصفة نهائية.
إلا أن من سلبيات هذا الاتجاه أن يحرم الحاضر المتنقل إلى اللقاء من العمل أو السفر أو من مكان بعيد أو من أي التزام آخر مما قد يسد به رمقه، كما يجعل الجو العام باردا ومملا للغاية، فالإطعام ليس فقط من مفاتيح القلوب، بل هو كذلك من ملهمي العقول. إن البيت النابض بالحياة هو من تتحرك فيه صدى المواعين، وعند الضرورة رائحة الطواجين، وهناك من يطلق على هذا الاتجاه “نظرية القنينة” نسبة إلى قنينة الماء اليتيمة التي تتوسط المائدة بدءا وانتهاء، وما قد تبعثه على الحاضرين من أسى وأسف.
الاتجاه الثالث: التوسط في الإطعام
وهو الرأي الذي يضع نفسه كحد وسط بين الاتجاهين السالفين. والوسطية دوما مطالبة في كل شيء، فالأمة الوسط مطلوب منها التوسط والاعتدال:”وكذلك جعلناكم أمة وسطا.” فلا نترك المائدة تئن وتنوح وتتضور لشدة برودة القنينة، ولا أن نشتغل بالأكل والشرب، وكأننا في مأدبة، فتفرغ اللقاءات من روحها وروحانينها ورياحينها.
وبما أن اللقاءات والمجالس إنما هي غداءات وعشاءات عمل وتزكية، فلا ضير من حضور الإطعام، يقول عبد الله بها رحمه الله:”ياك خدامين، ما فيها بأس اياكلو.” في تعليقه على من علق على إحدى فواتير التغذية المرتفعة. وقد وقعت في يدي إحدى الاستمارات التي طرح فيها سؤال: ما مقترحاتك لتجاوز عدم الارتياح في المجلس التربوي؟ فأجاب: كؤوس الشاي.
ويقول عبد الرحمن المجدوب:
” الخبز يا الخبز
والخبز هو الإفادة
لو ما كان الخبز
ما يكون دين ولا عبادة.”
وإذا كنا قد انتصرنا للاتجاه الثالث، فإن أبرز آداب تقديم الطعام تتمثل في ترك التكلف، يقول الفضيل: “إنما تقاطع الناس بالتكلف، يدعو أحدهم أخاه، فيتكلف له، فيقطعه من الرجوع إليه.” وقال بعضهم:”ما أبالي بمن أتاني من إخواني، فإني لا أتكلف له…ولو تكلفت له لكرهت مجيئه ومللته.” وقال سلمان: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نتكلف للضيف ما ليس عندنا، وأن نقدم إليه ما حضرنا.” فقال صلى الله عليه وسلم:”لا تكلفوا للضيف فتبغضوه، فإنه من أبغض الضيف فقد أبغض الله، ومن أبغض الله، أبغضه الله.” ويقول تعالى:”ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا.”
هكذا إذن يمكننا القول بأن نوع الإطعام وكمه، يختلف باختلاف المناشط، فهناك لقاءات قصيرة محدودة العدد لا تحتاج إلا إلى النزر اليسير، وهناك لقاءات تحتاج إلى جهد جهيد، ووقت مديد، تتطلب الكم الوفير. كما أن الإطعام وسيلة لإنجاح مناشطنا، فقد يكون غاية في حد ذاته بين الفينة والأخرى، فيلتقي الإخوة فيكون ذلك طريقا نحو زيادة اللُّحمة في الصف، وتآلف القلوب، لكسر آفة التكلف التي تحدثنا عنها. أما الإطعام في مناشط الشباب والأطفال التي تنظم في البيوت والمقرات، فإنني لن أتردد -كمسؤول شبابي سابق، وكمؤطر مجلس تربوي شبابي سابق كذلك، وكمسؤول الآن على ملف لجنة تلاميذ الثانوي التأهيلي- في اعتباره ضروريا، وقد يدخل في حكم الوجوب الحركي، ولو كان المؤطرون من أبناء وبنات الجيران، ولو بشق تمرة أو قطعة حلوى.
أتذكر اليوم الأول الذي أرسلت فيه ابني ليخبر أبناء الجيران بحضور المجلس التربوي فرددوا بلسان واحد:”واش كاين القص؟”. يقول المثل الشعبي:”الدار لي ما اتقال فيها: الله اقبل الله اخلف، راها ماشي دار.” ونضيف نحن ونقول إنها قبر قبل القبر، ليمضي الإنسان حياته في قبر، وبعدها يرمى في قبر. فاللهم لا تقبرنا قبل أن نقبر.
أبو عبد الرحمن