حتى تظل الأسرة مؤسسة السكن والمودة والرحمة – الحبيب عكي
من أغرب مظاهر الانفصام والطرافة في المجتمع، أننا نجد أنفسنا ننظر وننتظم في العديد من الهيئات المعاصرة كمؤسسات، أحزاب ونقابات..أندية وجمعيات..تعاونيات ومقاولات..روابط وائتلافات..بشكل عادي، ولكن إذا ما تعلق الأمر بالأسرة على قدها وقديدها بنيناها عشوائيا كما اتفق وعشنا فيها ومعها على غير ذلك دون نظام واضح أو موحد؟؟ إن الفكر المؤسساتي يعتبر أرقى أشكال التعبير والتنظيم والانتظام، وهو ولاشك يحرر الهيئات والتجمعات من الاستحواذ الفردي إلى التسيير والتداول الجماعي، ومن الأهواء الشخصية والمزاجية إلى القوانين والأعراف الخدماتية..، لذا فلا شيء أحق بالاستفادة منه من نظام الأسرة باعتبارها النواة الأولى لبناء المجتمع، هي فيه كل شيء وعليها يبنى كل شيء، وباعتبارها المحضن الطبيعي والمرفأ الدافىء للأمن والسلامة، فيها يتم التواصل والحوار وفيها تحل المشاكل ويتخذ القرار، وبها ومعها يتمكن الأفراد من التماسك والتضامن والتخفيف من الضغوطات ومواجهة الإكراهات، إنها شرنقة الحياة التي يتنفس فيها الأفراد الهواء النقي والقيم والأخلاق، إذا كانت موبوءة يخشى عليهم من الهلاك والإهلاك؟؟
إن أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع مما كبر شأنها أو قل،لا يمكن ولوجها مفيدا أو مستفيدا إلا بشروط ومؤهلات علمية وعملية ورغبات خدماتية واضحة، وتكوين وتأهيل ومباريات لمدرائها، لا يمكن الاشتغال فيها إلا بممارسات وأعراف في التواصل والخدمات، إلا بمخططات وبرامج في التكوين والتكوين المستمر، إلا بميزانيات في التسيير والتدبير ومشاريع الإنتاج..، أفيكون طبيعيا أن يغيب كل هذا إذا تعلق الأمر بالأسرة؟؟ أو أفيكون طبيعيا أن يغيب بعض هذا مع ما تعرفه هذه المؤسسة المجتمعية من تراجعات في أدوارها وتحديات في رسائلها بل حتى في هويتها ومرجعيتها وكينونتها؟؟ ما حجم الراحة اليوم في بيوتنا؟ ما حجم التوتر المجاني في علاقاتنا؟ ألا نستسلم للضغوط المستمرة في علاقاتنا؟ ألا يعاني الحوار والتواصل والتوافق فيما بيننا؟ أين السكن والمودة والرحمة في خصوماتنا؟ أين احترام صغارنا وتوقير كبارنا وتقدير علمائنا؟ كيف حال المنحرفين والمبتلين وذوي الاحتياجات من أبنائنا وآبائنا؟ ألم نستسلم لظواهر جشع الاستهلاك واكتساح العبث في الهواتف والحواسيب واللوحات؟ ماذا تبقى في أسرنا من أوقات العبادة والأوراد والأذكار؟ هل لا زالت فيها فسحة للترفيه واللعب مع الصغار وصلة الأرحام؟ هل لا زال فيها الحوار بين الأجيال أم طغى عليه الصراع بين الأجيال؟، وهل..وهل..؟.
إن مؤسسة بهذه الأهمية المجتمعية، ليس غريبا أن يسميها الله تعالى في محكم تنزيله كما يستشف من ذلك بمؤسسة السكن والمودة والرحمة:”وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ،إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”الروم/21ن وإن مؤسسة بهذه الأهمية،لا ينبغي أن تؤسس في الواقع على ما هب ودب مما يفقدها روحها ورسالتها، بل على أعمدة أساسية تقيم بنيانها وترفع أركانها و تسعد أزواجها وتربي أبنائها، شجرة طيبة كل حين تؤتي ثمرها وأكلها بإذن ربها. أفيكون ذلك في زيجات اليوم دون تكوين وتأهيل ورخصة قيادة؟ في زيجات صورية تفسد نواياها بزواج صوري أبيض من أجل أوراق الهجرة والعمل، بل من أجل لاشيء غير المتعة والعبث، كزيجة غريبة مجنونة حدثت في رحلة سفر بين مدينتين، بدأت في الحافلة وانتهت فيها ليهبط خزيها وعارها يجر أذيال الندم عبر السنين ولات حين مندم؟؟ أو زيجة قد يتساكن فيها إلى حين من العمال والطلبة والموظفين ممن فاتهم قطار الزواج أو لا يستطيعون ولا يرغبون في تحمل تكاليفه، أو زواج..أو زواج..مما لا شرفا يبقي ولا زواجا حقيقيا يمضي؟؟
لابد من بناء أسرنا على مقومات وعلى رأسها:
1 – على العلم والمعرفة لا على الجهل و الأمية: العلم بمعنى الأسرة..أدوارها..رهاناتها وتحدياتها..معنى التكافؤ فيها والقوامة..والحقوق فيها والواجبات.. معنى التربية مدارسها..مجالاتها.. وسائلها.. مراجعها..تجاربها وعلماؤها؟؟
2 – على الأصول الشرعية لا على العادات الوافدة: فالأسرة المسلمة تبنى على كتاب الله وسنة رسول الله، وما يحفظ الحقوق والواجبات، على عكس ما ينتشر في الواقع اليوم من الأسر المنحرفة والمبنية على مختلف أنواع الزنا الرضائية والعرفية والمتعية والعزوبية والسحاقية..؟؟
3 – على العبادة والتقوى لا على العادات الراكدة: عبادة قوامها السكن والمودة والرحمة والكرامة وخفض الجناح، لا الغلبة والاستضعاف والتوتر والصراع والمهانة، عبادة شاملة ودائمة حتى قيل أن اللقمة يضعها المرء في في زوجه صدقة.. وحتى النطفة في فرجها مأجورة.. وأيما زوجة أطاعت زوجها مأجورة..وأيما زوج نظر إلى زوجته نظرة نال بها المغفرة؟؟
4 – على مهارة التدبير المنزلي والكفاءة في قيادة الحياة: وفي الريادة والتوجيه والرعاية وفن الحوار والتواصل وحل المشكلات واتخاذ القرارات..والإشراك في ذلك، والتعاون على تعزيز الانتماء وتحمل المسؤولية، انتماء الأفراد إلى أسرتهم وتحملهم المسؤولية اتجاهها، لا أن يحسبها البعض مجرد فندق لاستراحة المقاتل يجدون فيه كل شيء ودون مقابل؟؟
5 – على عزيمة الصبر والاستقامة والتماسك والتضامن والتعاون والإحسان: بدل الصراع والتفكك والأنانية والغلبة..وغير ذلك مما يمزق سعادة الأسرة، والسعادة تعايش وتسامح في ظل الكرامة والتكامل وجبر الضرر الذي قد يطال الأفراد والفئات، والسعادة رفع الأذى وإصلاح المفاسد في ظل الحقوق والواجبات والعدل والإنصاف؟؟