حتمية قرب نهاية إسرائيل: معطيات وحقائق وفق رؤية المسيري المعرفية(2) – عبدالهادي باباخويا
يستحق الإنتاج المعرفي للمفكر الكبير عبد الوهاب المسيري، عناية خاصة واهتمام يناسب المجهود العظيم الذي قام به، لإثراء الفكر الإسلامي وإخراجه من حالة الركود والسطحية والتقوقع الذاتي والتآكل الداخلي، إلى رحابة النظرة الكونية ذات المنهج العلمي الرصين، والتحليل الموضوعي المتوازن للأشياء والظواهر والأفكار.
وضمن جهد مبارك قام به لتحسين كفاءتنا المعرفية في مواجهة الكيان الصهيوني، توقع المسيري نهاية قريبة لإسرائيل وهو مؤلف موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” في 8 مجلدات (قضى 25 سنة في تأليفها)، حيث استخلص من عدة معطيات وحقائق وفق سياق موضوعي هذه النتيجة.
أولا- هاجس نهاية إسرائيل في الوجدان الصهيوني:
موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني، فحتى قبل إنشاء الدولة أدرك كثير من الصهاينة، أن المشروع الصهيوني طموح مستحيل، وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس.
وتصاعد هاجس نهاية إسرائيل له ما يبرره، وهم محقون في ذلك -حسب المسيري- إذ يجب أن لا ننسى أن كل الجيوب الإستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية، الجيب الإستيطاني الفرنسي في الجزائر، دولة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا..) قد لاقت نفس المصير وهو الاختفاء.
وقد استعرض المسيري في إحدى مقالاته بموقع الجزيرة، بعض النكات التي يطلقها الإسرائيليون، وتعبر عن حقيقة رؤيتهم للواقع واستجابتهم له، وهي رؤية مختلفة عن التصريحات الصهيونية. ذلك أن النكتة -حسب المسيري- بكل مساوئها وحسناتها تعبر عما يسمى “المسكوت عنه”، وهي الأمور التي لا يمكن للمرء أن يواجهها بصراحة لأسباب موضوعية. وبعد استعراضه لعدة نكات جمعها من الصحف الإسرائيلية، استنتج حجم انسداد الأفق أمام الإسرائيليين، وإحساسهم العميق بالورطة التاريخية وفقدانهم الاتجاه نحو المستقبل.
ثانيا- الطبيعة الوظيفية لدولة إسرائيل:
يعتقد المسيري أن إسرائيل كيان استيطاني يعيش كدولة وظيفية، صنعتها القوى الاستعمارية وأنشأتها للقيام بوظائف ومهام تترفع عن القيام بها مباشرة، فهي مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية.
ويعرف المسيري “الجماعة الوظيفية”، بأنها مجموعات بشرية تستجلب من خارج المجتمع وتجند من داخله، ثم يوكل لها وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع القيام بها لأسباب مختلفة، من بينها أن تكون هذه الوظائف مشينة كالربا والبغاء، أو ذات طابع أمني حساس كحراسة الحكام أو أطبائهم أو جواسيس أو سفراء. ثم يعرف أعضاء هذه الجماعة في ضوء وظيفتها المحددة، لا في ضوء إنسانيتهم الرحبة المركبة.
كما استعرض المسيري سمات الجماعات الوظيفية اليهودية بالمجتمع الغربي، حيث أكد أنها نفعية تعاقدية إذ كانوا حتى أوائل القرن 19، يعتبرون من الأملاك الخاصة للحكام يرثهم من يرث العرش. وكان اليهود يستجلبون لمهمة معينة ويفرض عليهم الإقامة في غيتو خاص بهم، ويرتدون أزياء معينة ومقصورة عليهم. وتزايد اعتماد الجماعات اليهودية على الحكام، حتى كانوا أداة قمع في يدهم لضرب الجماهير واستغلالها، وأدت هذه العزلة إلى جعل الجماعات اليهودية على حدود المجتمعات أو على هامشها.
وتناول المسيري أيضا مفهوم الدولة الوظيفية الصهيونية، التي أسسها الإستعمار الغربي وغرسها في فلسطين لتدافع عن مصالحه، مقابل دعمها وضمان استمرارها وبقائها. فعلاقة الدولة الصهيونية بالإمبريالية الراعية، لا تختلف في جوهرها عن علاقة الجماعات الوظيفية بالنخب الحاكمة التي جندتها.
وتعد دولة إسرائيل أهم وأخطر تجليات الدور الوظيفي في هذا العصر، بما يؤديه اليهود للغرب الذي كانت له حاجة ماسة في تأسيس جيب استيطاني قتالي مملوكي، استغل فرصة فقدان الجماعات الوظيفية اليهودية أهميتها في الغرب، بعد نشوء الدول المركزية وانتهاء الإقطاع.
ثالثا- الوضع الداخلي للكيان الصهيوني:
تناول المسيري في موسوعته الكيان الصهيوني من الداخل (دولة ومؤسسات ومجتمع وثقافة..)، بهدف فهم هذا الكيان الإستيطاني الذي نشأ كحركة لتخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي، والذي تحول بعد ذلك إلى إحساس يصاحب جميع المستوطنين، حيث صاروا يشعرون أنهم خدعوا عندما صور لهم، أن عملية الإستيطان في فلسطين سهلة، وتدريجيا تنامى هذا الإحساس وترسخ كورطة تاريخية.
وقد انعكس هذا الإحساس على المجتمع الصهيوني من عدة جوانب، منها موضوع الإنجاب إذ يسجل أن معدل الإخصاب في إسرائيل هو الأدنى في العالم، رغم تشجيع الدولة للنسل بشكل مهووس بل وجعلته واجبا وطنيا، لأنه وسيلتها الأقوى في أفق تثبيت أركان استعمارها الإستيطاني.
أيضا يتسم المجتمع الإسرائيلي بتصاعد معدلات الاستهلاك، لأنها من مؤشرات التقدم عندهم. لكن هذا التوجه الإستهلاكي يقوض من مقدرته القتالية، ويربطه باللذة ويصرفه عن المثل الأيديولوجية الإستيطانية، التي تتطلب الانضباط والاستعداد العسكري والمقدرة على إرجاء الإشباع.
لكن يبقى أهم ما يهدد الكيان الصهيوني من الداخل، هو قناعة الإسرائيليين أن الصهيونية لم تعد هي الخريطة التي تهديهم سواء السبيل، ففلسطين التي كان يشار إليها أنها أرض بلا شعب، ظهر أن فيها شعب وأنه يقاوم المحتلين بلا هوادة ولا يكل ولا يتعب من المقاومة.
كل هذا ساهم في تآكل المنظومة المجتمعية لإسرائيل، وفشل مصطلح صهر المجتمع بأكمله في منظومة قومية موحدة، بعيدا عن الهويات المتعددة التي جاء بها اليهود من مختلف بلدان العالم.
رابعا- حرب الإستنزاف الذي تمارسه فصائل المقاومة:
أكثر ما يقلق إسرائيل هو المقاومة الباسلة التي تردعهم في كل ميدان، حيث أن استمرار المقاومة الفلسطينية هو “جرثومة النهاية للدولة الإسرائيلية”، وهي تعبير عن نموذج إدراكي تحرري يؤشر عن نصر قريب بإذن الله تعالى – حسب تعبير المسيري-
ويشير أيضا في حديثه عن دور المقاومة في نهاية إسرائيل، أن المقاومة تحارب ضد اغتصاب الأرض وصاحب هذه الروح لن ينال منه التعب، وهذا ما ثبت في الواقع حيث أن المقاومة أتعبت الاحتلال بوسائل رغم بدائيتها، وأثبتت أن جيش العدو الصهيوني يمكن أن يهزم استنادا إلى جذور المجتمع المقاوم وقواعده. ويؤكد المسيري أن حروب التحرير بينت أنه لا يمكن هزيمة العدو عسكريا، وإنما إرهاقه إلى درجة اليأس من تحقيق مخططاته فيسلم بالأمر الواقع.
فالإنتفاضة ولدت في النفوس نموذج معرفي لم يستند للمنظومة الغربية الحديثة، بل انطلق نحو تحقيق النصر استنادا إلى تاريخ الأمة وقيمها الخالدة، بما نتج عنه انفراط في العقد الاجتماعي للكيان الصهيوني، والذي يتنامى خلال هذه المرحلة بشكل متسارع، إذ تراجعت الثقة بين أفراد المجتمع الصهيوني والمنظومة السياسية الحاكمة في الكيان. كما أثبتت أفعال المقاومة المتكررة ونتائجها المبهرة، أن العدو الصهيوني غير قادر على فهم منطق وجدلية المقاومة، وهو ما يتيح لكل أشكال المقاومة الاستفادة من محدودية النموذج الإدراكي الذي ينطلق منه الكيان الصهيوني..
يتبع