ثورية عفيف تكتب: رقمنة الإدارة أم تعطيل الحق الدستوري في العمل الجمعوي؟

منذ أشهر، يعيش النسيج الجمعوي بالمغرب حالة غير مسبوقة من الاحتقان والاستياء، بسبب الطريقة التي يتم بها تنزيل برنامج رقمنة ملفات جمعيات المجتمع المدني. فقد تحولت الرقمنة التي كان يفترض أن تشكل رافعة لتبسيط المساطر وتحديث الإدارة إلى أداة لتعطيل أنشطة الجمعيات، وشل أدوارها الدستورية التأطيرية والتنموية، عبر فرض قيود إدارية لا سند قانوني لها.
فعدد كبير من الجمعيات، خاصة تلك المؤسسة منذ عقود، بات ممنوعا عمليا من عقد جموعه العامة لتجديد مكاتبه المسيرة، بدعوى عدم الإدلاء بوصل إيداع ملف التأسيس، رغم أن هذه الجمعيات سبق أن استوفت جميع الشروط القانونية عند تأسيسها، وأن نسخا من ملفاتها توجد أصلا لدى السلطات المحلية والأمانة العامة للحكومة. وهو ما يعني تحميل الجمعيات مسؤولية اختلالات أرشيفية أو إدارية لا تتحملها قانونا.
والأخطر من ذلك، أن هذا التعطيل يتم في تجاوز صريح لمقتضيات الفصل الخامس من ظهير تأسيس الجمعيات، كما تم تغييره وتتميمه، والذي يعد المرجع القانوني الحصري المحدد لوثائق الملف القانوني للجمعيات، بما في ذلك التصريح بتجديد المكاتب المسيرة. فهذا الفصل حدد على سبيل الحصر الوثائق الواجب الإدلاء بها، ولم يمنح الإدارة أي سلطة تقديرية لإضافة وثائق أخرى أو فرض شروط إضافية، تحت أي ذريعة كانت، سواء باسم الرقمنة أو توحيد المساطر أو تحديث الإدارة.
وبالتالي، فإن اشتراط الإدلاء بوثائق غير منصوص عليها قانونا، من قبيل وصل إيداع قديم، أو التدقيق المفرط في معطيات شكلية كاليوم والشهر في تاريخ الازدياد لأعضاء المكاتب، يشكل خرقا سافرا لمبدأ الشرعية، وانتهاكا واضحا لقانون الجمعيات، وتجاوزا لاختصاصات الإدارة التي يقتصر دورها، قانونا، على تلقي التصريحات وتسليم الوصولات، لا على تعطيل حياة الجمعيات أو تعليق وجودها القانوني.
إن الفصل الخامس، في جوهره، لا ينظم مجرد مسطرة إدارية، بل يؤسس لفلسفة قانونية واضحة قوامها أن الأصل هو حرية العمل الجمعوي، وأن أي تقييد لها لا يكون إلا بنص قانوني صريح وتحت رقابة القضاء. وهو ما يجعل كل ممارسة إدارية تفرغ هذا الفصل من مضمونه ممارسة غير مشروعة، حتى وإن اتخذت غطاء تقنيا أو رقميا.
سياسيا، لا يمكن فصل هذا التضييق الإداري عن سياق أوسع يعرف تراجعا في الثقة في الوسائط المدنية، في وقت ينص فيه دستور 2011 صراحة على اعتبار جمعيات المجتمع المدني شريكا أساسيا في إعداد وتتبع وتقييم السياسات العمومية. فكيف يمكن الحديث عن ديمقراطية تشاركية، بينما تعطل الجمعيات بسبب قيود إدارية شكلية لا أساس لها في القانون؟
إن أخطر ما يفرزه هذا الواقع هو حالة الإحباط والتيئيس التي تطال الفاعلين الجمعويين الجادين، ولا سيما فئة الشباب، الذين يصطدمون بإدارة رقمية جامدة، لا تراعي الفوارق الزمنية والمؤسساتية، ولا تعترف بتراكمات العمل التطوعي، ولا تميز بين التنظيم المشروع والتضييق المقنع. وهو ما ينذر بإضعاف النسيج الجمعوي وتقليص أدواره الاجتماعية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى مجتمع مدني قوي وفاعل.
إن الرقمنة، في بعدها السياسي، ليست مسألة تقنية محايدة، بل خيار ديمقراطي. فإما أن توظف لخدمة دولة الحق والقانون وتيسير الحقوق والحريات، أو تتحول إلى أداة ضبط إداري ناعم تمارس من خلالها أشكال جديدة من التضييق خارج المساطر القانونية.
وعليه، فإن المسؤولية السياسية والمؤسساتية تفرض اليوم مراجعة عاجلة لكيفية تنزيل برنامج رقمنة ملفات الجمعيات، من خلال الالتزام الصارم بمقتضيات الفصل الخامس من قانون الجمعيات، وإيقاف كل الشروط غير القانونية، واعتماد مقاربة تشاركية تشرك الفاعلين الجمعويين، وتضمن مرحلة انتقالية مرنة تحترم القانون وروحه. لأن تعطيل العمل الجمعوي لا يمس الجمعيات وحدها، بل يضرب في العمق مشروع الديمقراطية التشاركية الذي اختاره المغرب دستوريا وسياسيا.




