“تسديد التبليغ”.. خطة العلماء سنة 2024 لتقليص الهوة بين الدين والتدين
في 5 يونيو 2024، أطلقت كل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى خطة جديدة، تهدف لتحسين الحياة اليومية للناس. وانعكاس إيمانهم وعباداتهم في نفوسهم وتصرفاتهم. وتقليص الهوة الفاصلة بين فضائل الدين، وبين أعمال كثير من الناس البعيدة عن تلك الفضائل، أطلقت عليها “خطة تسديد التبليغ”، وكانت من أبرز الأحداث التي شهدها الشأن الديني في 2024.
أهداف الخطة ووسائلها
سعت مؤسسة العلماء من خلال هذا المشروع إلى النهوض بأمانات العلماء في واجب تبليغ الدين من أجل تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي للناس بحيث يكون إيمانهم وعباداتهم ثمرات تنعكس على نفوسهم بالتزكية وصلاح الباطن، وعلى سلوكهم بالاستقامة وصلاح الظاهر.
وتحاول الخطة ردم الفجوة بين صور التدين التي انحرفت عن مقصود الدين، وبين مطلوب الدين نفسه، وبلورة “تدين يبلغ بالفرد مبلغا من الحياة الطيبة”، كما تنكب على إيصال مضمون الخطاب الشرعي من خلال النفاذ إلى المحرك الرئيسي للإنسان الذي هو قلبه، ومن ثمة بلوغ درجة الرشد في التدين عبر “إحياء روح الإيمان”.
وتتقاطع خطة التبليغ في عملها، مع كل الجهود المخلصة الهادفة إلى تحسين أحوال الناس وإصلاحها، ومع كل النظم والقوانين والمبادئ الساعية إلى تحقيق سعادتهم والعدالة فيما بينهم، وحفظ أمنهم وسلمهم، وحفزهم على الإبداع والبذل والعطاء، بما يقوي أواصر التضامن والتكافل فيما بينهم.
ويتم تنزيل هذه الخطة من خلال وسائل التبليغ والتكوين المختلفة في خطبة الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد وبرنامج ميثاق العلماء والمحاضرات والندوات الداعمة، وكذا في مقررات معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات ومدارس التعليم العتيق، وفي دروس التوجيه والتوعية عبر وسائل الإعلام والتواصل السمعية والبصرية.
حصيلة المرحلة الأولى
عالجت المرحلة الأولى من خطة تسديد التبليغ، من خلال التقرير الذي قدمه الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى الدكتور سعيد شبار خلال أشغال الدورة العادية للمجلس المنعقدة نهاية شهر نونبر، بدرجة أولى قضية الإيمان وعلاقته بالعمل الصالح، وأثره في النفس بتخليصها من الشهوات والأغيار، وتحريرها من الأهواء والأنانيات خاصة من خلال الخطب المنبرية.
وبلغت الخطة منذ الانطلاقة الفعلية 19 موضوع خطبة، بينما بلغت المواعظ المعضدة لهذه الخطب والمنجزة بمناطق التجريب من بداية شهر يوليوز إلى نهاية شهر غشت 34099 موعظة.
وشهدت مرحلة التعريف والإعداد ثلاث محطات رئيسية مركزيا وجهويا وإقليميا، ابتدأت بالإعلان عن انطلاق العمل بالخطة مركزيا في 5 يونيو 2024 تم فيها التعريف بالخطة وسياقها وأهدافها، ومضامينها وطرائق تنزيلها وتوجهات تهم سبل نجاحها.
وتلى هذه المحطة لقاءات تواصلية جهوية تحت إشراف الأمانة العامة للمجلس؛ وشملت هذه اللقاءات جميع جهات المملكة انعقد فيها 80 مجلسا تعريفيا، استفاد منها استفاد منها 1394 شخصا خلال الفترة من 17 يناير إلى 15 فبراير 2024 في سبع مدن مركزية.
وسعت الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى في محطة ثالثة إلى التعريف بخطة تسديد التبليغ عبر وسائل الإعلام، عبر مجموعة من البرامج الإذاعية والتلفزية عبر قناة السادسة، وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم؛ أطرها ثلة من العلماء كما تم إشراك أعضاء المجلس، والأئمة المرشدين والمرشدات في شرح الخطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الإلكترونية للمجالس العلمية.
أما على المستوى المحلي، فقد عقدت المجالس العلمية لقاءات مع المرشدين والمرشدات والوعاظ والواعظات وبعض القيمين الدينيين، الذين تم انتقاؤهم للمشاركة في تنزيل خطة تسديد التبليغ شملت 82 مدينة وإقليم.
وهمت ثماني مناطق (4 حضرية و 4 قروية) في دائرة نفوذ كل مجلس علمي محلي، كما تم تكوين فريق عمل ميداني لكل منطقة، يضم منسقا ومرشدين ومرشدات ووعاظ وواعظات بالإضافة إلى الخطيب والإمام ولجنة من الأعيان، كما تم تحديد آليات للمتابعة كما تنص عليها المذكرات الوزارية بهذا الخصوص.
وتضمنت الحصيلة العامة للتشخيص والتدخلات تحديد مناطق التجريب التي شملت 323 حضرية (54 %) و278 (46%) قروية بما مجموعه 601 منطقة للتجريب بمختلف جهات المملكة، وخصصت الموارد البشرية المبرمجة للتدخل 4176 إطارا من رؤساء وأعضاء المجالس المحلية ومرشدين ووعاظ وخطباء ومتعاونين، منهم 2675 رجال (64%) و1501 نساء (36%).
وثائق معتمدة
واعتمد المجلس العلمي الأعلى في تأطيره لأشغال المجالس العلمية الجهوية والمحلية صنفين من الوثائق، تمثلت الأولى في كتب وخطب من خلال إعداد وإصدار “الدليل المرجعي لخطة التبليغ في التأصيل والفهم والتنزيل”، وكتاب جامع في تأصيل التبليغ ودلالاته الشرعية بعنوان “أمانة التبليغ تأصيلا وتنزيلا” لمؤلفه العلامة مصطفى بنحمزة، وكتاب مرجعي يوفر أربعين درسا منتقاة تحت عنوان “الدين للحياة”.
يضاف إلى ذلك كتابين سابقين “دليل الإرشاد” و”سبيل العلماء”، وفي طور الإعداد “دليل المجالس العلمية الجهوية والمحلية” وقيد التنقيح “دليل عمل المرشدين والمرشدات” وجاهز للطبع بعنوان “دليل المرأة العالمية. كما اعتمدت الوزارة في تأطير للمجالس الجهوية والمحلية أيضا على الوثائق الإدارية؛ شملت ثمان مذكرات إدارية وبطاقات التتبع والتقويم، تهم مذكرة مديرية لتتبع نشاط المجالس العلمية.
مؤاخذات على الخطة وجدل الخطبة الموحدة
رافقت خطة تسديد التبليغ إشادة كبيرة من مختلف الفاعلين في الحقل الديني بالنظر باعتباره مشروعا كبيرا يهدف إلى تفعيل دور الدين وقيمه في الوصول إلى الحياة الطيبة، ويمكن أن يسهم في تنمية الوطن وحفظ أمنه واستقراره.
لكن في المقابل عرفت الخطة انتقادات واسعة خاصة فيما يخص توحيد خطبة الجمعة، بعد تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، والتي وصف فيها عينة من الخطباء بأنهم “مرضى”، وأن بعضهم يسعى للنجومية من خلال الخطبة.
وتناقض ذلك مع توضيحات المجلس الأعلى، والتي أكدت أن توحيد الخطبة مرحلي اقتضاه التعريف بالخطة، وأن المجلس يثق في خطبائه ويعتز بهم، وهم ينوبون عن أمير المؤمنين في توجيه الأمة إلى الاهتداء بدينها، ومع ما قاله عند انطلاق الحملة حيث أكد أن: “الخطيب الذي يفهم خطة تسديد التبليغ ويقتنع بها يمكنه في وقت من الأوقات أن يتصرف بكيفية حرة إذا ظهر له ذلك في حدود ما هو مطلوب في بيئته”.
ووصف الدكتور رشيد بنكيران أستاذ في معهد الغرب الإسلامي للتكوين والبحث العلمي توحيد خطبة الجمعة أقرب ما تكون إلى توحيد الوصفة الطبية، فيما خلص الدكتور عبد الله الجباري الباحث في الفقه الإسلامي من خلال تدوينة له بعنوان “توحيد خطبة الجمعة حول الهجرة”، أن توحيد الخطبة وفرضها على الخطباء مرفوض مبدئيا، لكنه مباح في حال الضرورة، ونحن في حال الضرورة.
وانتقد الخطيب والواعظ الأستاذ معاذ الصمدي الهجمة على العلماء وقرار تنزيل خطة التبليغ بما تتضمنه من توحيد لخطبة الجمعة حسب ما تقتضيه البرامج والتكوينات، معتبرا أن هذه الهجمة في غالبها انساقت وراء شعارات لا تتناسب مع الأهداف النبيلة للخطة، ظنا منهم أن توحيد الخطبة فيه إلجام وتكميم لأفواه الخطباء.
وعاد المجلس العلمي الأعلى ليحسم في هذا الجدل عبر بلاغ له في يوليوز الماضي ليعلن أنه سيقترح على الخطباء، خطبة كل يوم أربعاء على الساعة الثانية بعد الزوال على موقع الوزارة لمن أراد اعتمادها في إشارة إلى أنها اختيارية ويحسم الجدل. وتناولت أول خطبة جمعة يوم 12 يوليوز موضوع “سبيلنا إلى الحياة الطيبة”.
مرحلة ثانية من الخطة
تركز المرحلة الجديدة من خطة تسديد التبليغ التركيز على الحديث عن العبادات وثمراتها وأثرها في السلوك العملي للناس، بعدما عالجت خلال المرحلة الأولى قضية الإيمان وعلاقته بالعمل الصالح، وأثره في النفس بتخليصها من الشهوات والأغيار، وتحريرها من الأهواء والأنانيات.
وتتناول هذه المرحلة مواضيع عن الطهارة كمفهوم شامل، وتمثل الناس لكل جوانب هذا المفهوم أو بعضه، وركن الصلاة وفضلها وروحها وأثرها عبر المحافظة على الصلاة وأوقاتها واستجابة الشباب لها ورصد حالات الامتناع والتشكك وأثرها في حياة الناس الأسرية والاجتماعية.
كما تركز المرحلة على ركن الزكاة ومشروعيته وفضله وأثره من خلال الإنفاق وفضل العطاء الواجب والتطوعي، والوقاية من الشح والخطورة الشرعية والاجتماعية المترتبة عنه، والأصناف والأموال والمنتجات والعروض التي تجب فيها الزكاة والأثر الاجتماعي للإنفاق.
وعبر خطيب جمعة في هذا الإطار، عن أمله المعقود في أن تُتوج اجتماعات الهيئة العلمية للمجلس العلمي الأعلى بحسن النظر في مشروع خطة تسديد التبليغ، وفي أن توضع الإمكانيات البشرية والمادية لحسن تنزيله، وأن يُنصف الأئمة والخطباء ويرفع من مقامهم قصد قيامهم بالأمانة الملقاة على عاتقهم، دون تخويف ولا إرهاب.
علماء إفريقيا يستلهمون منهج ومقاصد خطة التبليغ
أقرت لجنة الدراسات الشرعية للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ستة مشاريع في دورتها السنوية العادية السادسة بفاس المنعقدة في الفترة الممتدة من 18 إلى 20 ديسمبر 2024م، من بينها مشروع تسديد التبليغ على مستوى فروع المؤسسة.
واعتمدت دورة المجلس كلمة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الرئيس المنتدب للمؤسسة إطارا مرجعيا لعلماء وعالمات فروع المؤسسة في تسديد تبليغ الدين في السياق الإفريقي، والعمل على إخراج الوثائق التنزيلية له، ومنها: دليل السلوك والتصوف، ودليل العالم والإمام.
كما أوصت بتفويض تحديد الإجراءات العملية والتقنية التنزيلية للمشاريع المصادق عليها برسم سنة 2025م للأمانة العامة للمؤسسة بالتنسيق مع فروعها.
وأكد رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية جنوب السودان، منير عوض سوميت عبد الله، أن العلماء الأفارقة حريصون على استلهام منهج ومقاصد خطة التبليغ، باعتبارها دليلا مرجعيا في الفهم والتأصيل والتنزيل.
وأشاد السيد سوميت عبد الله، في كلمة بإسم علماء المؤسسة خلال أشغال الدورة العادية السادسة للمجلس، بما قام به المجلس العلمي الأعلى بالمملكة المغربية من إرساء عميق لأسس “خطة فريدة في تسديد مهمة تبليغ الناس وترشيد تدينهم”. وأوضح أن العلماء يأخدون هذه الخطة مأخد الاستئناس بها تشخيصا وتخطيطا وتنزيلا في أنشطتهم بالربوع الإفريقية، مع الحرص على توظيفها عبر مختلف قنوات التبليغ المتاحة.