ترشيد الاستهلاك الشخصي والأسري
تعتبر الحاجة اليوم إلى فقه ترشيد الاستهلاك الشخصي والأسري من مقتضيات العصر الاجتماعية والاقتصادية، بل والأمنية أيضا، نظرا إلى عدة اعتبارات منها: أن حماية المستهلك بالتوعية وحماية الحقوق المادية والمعنوية له، يعتبر ذلك من صميم حماية حقوق الإنسان والوطن معا.كما يعتبر سعي المستهلك نفسه إلى الوعي بذلك من تمام ذكائهوصميم فطنته، إذا أراد النجاح في حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية والأخروية.
ومن ذلك أيضا أن التغيرات النوعية التي يعرفها العالم على كل المستويات وخصوصا المستوى الاقتصادي منه، والتقدم الرهيب التي تعرفه الشركات والماركات العالمية على مستوى الوعي بنفسية المستهلكين، والإمكانات الرهيبة التي تتوفر عليها على مستوى التسويق مما يجعل المستهلك يشتري السلعة شاء أم أبى، كان قادرا على الأداء من مورده الشهري أو يستلفها إلى أجل غير مسمى، وكل ذلك وغيره يفرز تحديات، وينتج آثارا حقيقية يؤدي عدم الوعي بها مسبقا إلى مشاكل شخصية وأسرية واجتماعية خطيرة…كانتشار المديونية وتضاعفها على مستوى الأفراد والأسر، من أكثر من جهة، مما يؤدي إلى التفكك الأسري والاجتماعي، وانتشار الأمراض النفسية والعضوية، والانتحار…
وبما أن الشركات تتمتع -من جهتها-بحرية كبيرة في التسويق، وقدرة رهيبة في تجميل سلعتها، وتستطيع أن تصل إلى المواطن في أي بقعة من وطنه الحبيب، لتقنعه بقيمة منتجاتها، حيث يجد المسكين إعلاناتها تطارده في كل مكان واقعيا وافتراضيا، ولانشك بأنهاتطارده أيضا حتى في عالم النوموالأحلام، من كثرة ما يجد ملصقاتها في الشارع، وفي التلفاز، بل وتصله رسائلها التسويقية إلى هاتفه الشخصي، وبريده الإلكتروني، بل وإلى كل حساباته الافتراضية ..فإن كل ذلك يفرض على كل القوى الحية في هذا الوطن أن تحمي الطرف الذي لا حيلة له ولاقدرة، حتى يحصل شيء من التوازن بين الطرفين – على الأقل – على مستوى الوعي تحديدا، وذلك أضعف الإيمان. نعم تساهم في ترشيد الاستهلاك الشخصي والأسري، وتقابل ذلك القصف المتواصل للإعلانات من كل الجهات، بقصف مثله من المعلومات، كل ذلك وفق قانون الكل رابح؛ الشركات تربح ببيع سلعها، والمواطن يربح باستهلاك راشد، والمجتمع رابح لأن العلاقات الاقتصادية فيه تسير بمنطق يحفظ تماسكه، ويحمي وجوده ويضمن تقدمه.
وقد بقي العالم المعاصر ساكتا عن هذه الحقيقة حتى أعلنها الرئيس الامريكي جون كندي في 15 مارس عام 1962 في الكونغرس الامريكيبالقول :(ان شريحة المستهلكين هي الشريحة الكبيرة التي تؤثر وتتأثر بالاقتصاد إلا ان صوتها غير مسموع)، ومن ذلك اليوم اطلق جون كندي الحقوق الأربعة للمستهلك:
– الحق في السلامة.
-الحق في المعرفة.
-الحق في التثقيف.
-الحق في التعويض.
وهكذا تبنت الامم المتحدة هذه الحقوق لحماية المستهلك وترشيده.
مفهوم ترشيد الاستهلاك الاسري
ويمكننا أن نبيّن المقصود بترشيد الاستهلاك الأسري بعيدا عن التعريفات الأكاديمية، ومكتفين بالمضمون الذي يقرب المعنى لعموم القراء فنقول بأنه: “الإنفاق المادي والمعنوي لسد حاجات الأسرة بمسلك إيجابي وراشد يضمن راحتها وتقدمها.”
والمقصود بالإنفاق المادي؛ هو مصروفات الأكل والملبس وغيرها .. لكن الاستهلاك المعنوي على خطورته هو الغائب – للأسف – في اهتمامات جل الباحثين في مجال حماية المستهلك، وسوف أوضحه في هذا العرض بحول الله.
ومقصودي بمسلك إيجابي؛ بمعنى غير مدفوع بتسرعوتأثر معين من إعلانات أو غيرها.
والمقصود بالراشد؛ وهو الذي يقوم على وعي حقيقي بطرق الاستهلاك السليم.
يضمن راحة الأسرة: وذلك بتحقيق حاجياتها.
وتقدمها: بالتوفير المادي والمعنوي في صندوق التوفير العائلي والذي يحمي استقرار الأسرة ويزيد من رصيدها.
بعض المظاهر السلبية للاستهلاك الاسري:
على مستوى الفردي:
هناك مظاهر متعددة، منها ما يتعلق بالرغبة الجامحة في امتلاك الأشياء ومنها أيضا بالشراهة في الأكل والشرب، إلى غير ذلك من المظاهر، ونبدأ بالأول، فنقول بأن العين لا تخطئ مجموعة من المظاهر الواضحة للعيان ولا تحتاج لا إلى دراسة ولا استبيان، ومن ذلك:
– حب الظهور والتفاخر بامتلاك الجديد: في الملبس، وهذا يفرض على أفراد الأسرة كثرة التسوق وشراء الألبسة المتعددة والمتنوعة والمواكبة للموضة …وأيضا المنافسة الحامية في امتلاك الأشياء الجديدة، منها الهواتف النقالة، ومتابعة آخر الأنواع في ذلك، وكذا الحواسيب بأنواعها المكتبية والمحمولة، وكثرة استبدالها، رغم أن الأنواع السابقة كانت تعمل بشكل جيد، ولا ينقصها شيء؛ إلا متابعة الصعود في الأرقام الخاصة بهذه الماركة أو تلك..
طبعا هذه المظاهر تختلف من فرد في الأسرة إلى آخر، بحسب السن والوعي والجنس، فقد تكون الظاهرة أبرز لدى المراهقين من غيرهم، لما تمثله تلك الأشياء من قيمة نوعية تعزز من قيمتهم الشخصية ومعنوياتهم النفسية..
ومن المظاهر النوعية التي تبرز للعيان في جل المجتمع بدون استثناء نجد:
– الاهتمام الكبير بالمكياج والموضة: ولعل حجم هذا النوع من التجارة يظهر هذه الحقيقة في المجتمع؛ في كل الأسواق؛ الشعبية والكبيرة وغيرها.
وعلى مستوى المأكولات والمشروبات نجد بعض المظاهر الواضحة منها:
– البدانة: بكل مستوياتها الدنيا والمتوسطة والعليا، وأكبر مظاهرها بروز الكرش، وترهل عضلات الجسد بكثرة الدهون وقلة الرياضة،ومشكل البدانة الظاهرة تغذيها شراهة قاهرة، هي عند الكثير تنفيس كبير عن ضغوط نفسية، لكن ما تنتجه تلك الشراهة من تخمة قاتلة، قد لا يعلم الكثير ممن ابتلوا بتلك العادات السيئة؛ بآثارهاالمدمرة؛ من أمراض قلبية وكلوية وسكرية وغيرها من المتاعب البدنية والمصائب الصحية..
– على مستوى الجماعي:
– ارتفاع نسبة الديون الطويلة والقصيرة والمتوسطة، من المؤسسات البنكية، ومن الأفراد؛ كالأصدقاء أو الأقارب.
– هوس الشراء الواضح في المناسبات المتعددة: رمضان، العشر الأواخر، الأعياد، الأفراح المتنوعة، العطل، الدخول المدرسي…
كثرة الطعام التي ترمى في القمامات: والتي قد لا تعفى منها أسرة، وهذه من العادات السيئة والمرفوضة في شريعة الإسلام، ويعلم الجميع بلا شك أن الطعام نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، ونعم الله ينبغي أن تصان عن الامتهان والاحتقار، ورمي الطعام عمداً في القمامات يدخل في كفران نعمة الله جل جلاله. والطعام له كرامة مقدرة في الإسلام فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي- صلى الله عليه وسلم – قال :”أكرموا الخبز.” ورأى مرة في منزله صلى الله عليه وسم كسرة خبز يابسة قدسقطت على الأرض فرفعها وأزال ما فيها من التراب، وقال: “ياعائشة أكرمي جوار نعم الله، فقل مانفرت من قوم فكادت أن ترجع إليهم”، والنصوص في هذا كثيرة. ومن كلام الحكماء في هذا الباب :[ الخبز يُباس ولايُداس ] .
أنواع الاستهلاك الأسري
– الاستهلاك المادي:
وهو ما يخص الناس من أمور مادية كالأكل والشرب واللباس و المركب والسكن وغير ذلك.
– الاستهلاك المعنوي:
وهذا النوع من الاستهلاك هو الأهم في نظري، لسبب بسيط؛ وهو عدم اهتمام الدارسين والمهتمين بحقوق المستهلك وتوعيته به. ويتعلق الأمر بأنواع متعددة ومتنوعة من الاستهلاك التي تدخل في هذا النوع منها:
– استهلاك الوقت والزمن:وذلك في الاهتمامات التي قد لا تعود بالنفع على الأسرة وأفرادها، بل ينعكس ذلك سلبا على حياتهم ومستقبلهم. وهذا النوع هو الأخطر والأعظم…حيث يستهلك الانسان ذاته ووجوده، وما الإنسان في حقيقته إلى أيام وساعات، إذا ذهب يوم ذهب بعضه…دون أن يلقي بالا واهتماما لخطورة ذلك.
وإذا ألقينا نظرة على فاتورة استهلاك الوقت عند الأسرة؛ فقد نصدم لهول ما نجد من حقائق مرعبة، حيث نجد معدلات إهدار الوقت خارج حسابات خدمة الأسرة خصوصا، مثلا معدلات جلوس الأزواج والأباء في المقاهي على حساب لقاء أفراد الأسرة..نسبة مشاهدة التلفاز والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على حساب اجتماع الأسرة وتواصلها واستمتاع بعضهم بلقاء بعض…وهذا الهدر وذلك الاستهلاك لن تجده محسوبا ضمن خسائر جل الأسر، في حين ذلك هو الربح ورأس المال العائلي الحقيقي. وللأسف قد يعيش الإنسان طول حياته ويلقى ربه دون أن يعلم بخطورة ذلك.
صدمت لما رأيت أحد الأصدقاء نشر على حائطه في الفايسبوك إحصائية خاصة بمكوثه في ذلك العالم الافتراضي حيث كان الرقمكالتالي.:قضى في الفايسبوك مدة4801 ساعة، بما يعادل 200 يوم على الفايس لسنة واحدة فقط، وهي سنة 2016 ميلادية.يعني أن صديقي هذا يقضي وقته في الفايس بمعدل 13 ساعة و 20 دقيقة يوميا. ألا يعتبر هذا إنذار خطير وإهدار رهيب لأوقات الأسرة والعمل والحياة الخاصة والعامة.
ومنها الاستهلاك العاطفي داخل الاسرة :
وقصدي في هذا أن كل أسرة قصدت أم لم تقصد؛ فإن لها رصيدا عاطفيا،وبنكا عاطفيا للعائلة ، وكل السلوكات تؤثر في رصيد هذا البنك سلبا وإيجابا، فمن قدم خدمة للأسرة فإن رصيده ينمو بقدر ذلك العمل،والعكس بالعكس. ولذلك فإن الأم هي صاحبة الرصيد الأوفى والأوفر لخدماتها الجليلة والرائعة لعائلتها. لكن المهم في هذا الموضوع أن ننتبه إلى سلوكاتنا داخل أسرنا، فإنها تؤثر في رصيد أسرتنا ورصيدنا فيها، فمثلا الذي يسيء إلى أسرته بشكل متكرر فقد يفقد أسرته بالكامل في يوم ما، وقد يتخلى عنه الجميع لسوء خلقه، ويظهر ذلك جليا في نسبة الطلاق التي بدأت ترتفع بشكل ملحوظ ومخيف في السنوات الأخيرة…ولذلك الكثير من الأسر لا تنتبه إلى الإسراف الرهيب والاستهلاك غير المبرر للعواطف السلبية بكثرة اللوم والتواصل السلبي والخلافات الأسرية غير المبررة وسوء الأخلاق وبذاءة اللسان وسخط الوالدين وغير ذلك، فكل هذا استهلاك معنوي، سيؤدي لا محالة إلى هلاك مادي ومعنوي للأسرة إذا لم تنتبه لخطورة ذلك. ومن هنا نفهم الميزان النبوي الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال :” خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي.” ونفهم الإنفاق المعنوي الذي يقدمه المسلم في أسرته، كما قال صلى الله عليه وسلم :”الكلمة الطيبة صدق…واللقمة يضعها الرجل في فم زوجته صدقة..”
ومنها الاستهلاك الثقافي والفكري:
الاستهلاك الثقافي والفكري جزء لا يتجزؤ من الاستهلاك المعنوي، ويتعلق الأمر باهتمام أفراد الأسرة بالجرائد والكتب والمجلات، والتيارات الفكرية والتنظيمات الجمعوية…وماذا يقرؤون، وماذا يهمهم من أفكار وأخبار؟؟..ومع أي توجه يتعاطفون؟ ومع من يحضرون ويستفيدون في التأطير الثقافي والتوجيه الفكري ..
ولا شك أن في كل ذلك توجيه لاهتمامات الأسرة واختياراتها في الحياة، وترتيب أولوياتها فيها، بل ومؤطر أساس في توجيه استهلاكها المادي كما ونوعا، بوجه من الوجوه.و قد يكون محددا لمصير الأسرة في الدنيا والآخرة.
وقد يتطور الأمر في هذا النوع إلى أن تصبح الأسرة ليست مستهلكة فقط للأفكار والقيم والتوجهات، بل تصبح منتجة ومساهمة في خدمة مجتمعها بما تستفيده من كل في عالم الثقافة والفكر والتربية والتوجيه.
ومنها الاستهلاك الإعلامي:
ويتعلق الأمر بكل منتوج إعلامي؛ فيلما كان أو أغنية او مسرحية أو غير ذلك، لأن كل ما يعرض في الاعلام يعتبر سلعة إعلامية، وقبل ذلك هو منتوج إعلامي مصنوع، له صنّاعه الذين لهم أهدافهم الخاصة والخالصة منها القيمية ومنها الاقتصادية .. ومنها غير ذلك. وكل أولئك لهم أهدافهم المادية والأدبية قطعا وطبعا، وإلا كانوا أغبياء .. وهذا يطرح السؤال على الأسرة؛ كيف تستفيد من هذا النوع من البضاعة؟ وتحافظ على هويتها وهوية أبنائها وقيمهم ومستقبلهم. كيف تنفتح على الثقافات الوافدة؟ وكيف تكسب أفرادها المناعة الفكرية والثقافية اللازمة لحماية هويتهم وقيمهم ووجودهم الثقافي والحضاري في هذا العالم المتغير؟
والعلاقة بين الاستهلاك المادي والاستهلاك المعنوي وأثر كل منهما في الآخر:
لا شك أن الاستهلاك المعنوي له أثر كبير في توجيه الأسرة وتشكيل وعيها وثقافتها ومسار حياتها، وهو بذلك مؤثر بوضوح في الاستهلاك المادي، ومن الدوافع الرئيسية إليه..أعطي مثالا واحدا فقط لذلك، يتأثر الزوجان مثلا بإعلان على التلفاز، فيذهبان لشراء المنتوج في السوق، لكن مسلك الرجل في التسوق غير مسلك المرأة، الأنثى غالبا ما تجد متعة كبيرة في التسوق، وخصوصا بجانب زوجها، لكن الزوج يغتاظ كثيرا في التسوق مع زوجته، والسبب في ذلك أن الزوجة مثلا لتشتري شيئا لا بد أن تمر على السوق كله، طولا وعرضا وعمقا، لتقارن بين الأنواع والألوان والأثمنة والمحلات وطريقة تعامل بائعي المنتوج.. بينما الزوج يحتاج للذهاب مباشرة لشراء المنتوج الذي يريد، ويرجع إلى البيت. وهذا الفرق الجوهري في التعامل مع التسوق؛ يسبب مشاكل كبيرة للكثير منالأسر، فالزوج يتهم زوجته بعدم امتلاكها للذكاء الكافي في التسوق، وأنها تضيع الأوقات والأشغال والفرص، بينما تتهم الزوجة زوجها بأنه لا يهتم بها ولا يكثرت لها، ودائما يعلق على تصرفاتها بما يقلقها ويقصد احتقارها، ولا يشتري لها الشيء حتى تندم على اليوم الذي ولدت فيه…وقد تتطور الأمور بين تسوق وآخر إلى انهيار العلاقة الزوجية لا قدر الله. والسبب هو عدم الاهتمام بالاستهلاك المعنوي، والمتمثل في أمرين مهمين على الأقل وهما : الوقت، والرصيد العاطفي للأسرة. والسؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذه المواقف؛ هل يستحق ذلك المنتوج في السوق كل ذلك الاستهلاك منالوقت.؟ وهل يستحق ذلك الخلاف حوله بين الزوجين إلى درجة تهديد العلاقة الزوجية؟
العوامل المؤثرة على الأسرة والموجهة لها في منهج الاستهلاك
لا شك أن هناك عوامل كثير رصدها علماء الاقتصاد وعلماء نفس وغيرهما، يمكن الاطلاع على ذلك بتفصيل في مظانه، لكن سأذكر بعضها باختصار، من ذلك:
– العامل المعرفي:
أهم سبب يدفع الناس إلى كثرة الاستهلاك السلبي؛ هوغياب الوعي، إذ أن طريقة تعامل فئة من الناس مع المال تنطلق من فهم خاطئ، باعتباره وسيلة للإنفاق ليس إلا، وهذا المسلك في الفهم قاصر جدا في استعياب قيمة المال ووظيفته الحقيقية في حياة الانسان.
العامل النفسي :
حيث يجد عدد مهم من الناس أحيانا في كثرة الشراء والاستهلاك متنفسا لنسيان هموم الحياة اليومية وتغيير اللأجواء وتفريغ الشحنات السلبيةوالضغوطات النفسية المتراكمة في البيت والعمل ورتابة الحياة لذلك فهم يهربون أكثر الأوقات من أنفسهم لكي تستعيد وجودها من خلال التسوق. بل منهم من يعتبر الشراء هو إثبات لوجوده، ولسان حاله يقول :”أنا أشتري إذن أنا موجود”.
العامل الإجتماعي:
حيث يلعب حب الظهور والتباهي والمقارنة بالغير عملا مهما في دفع الناس نحو التنافس في الشراء. ومن الأقوال الاجتماعية المشهورة في هذا الباب:” الكم الذي عندك ..يحدد قيمتك”
العامل الإعلامي:
حيث تلعب الإعلانات دورا كبيرا في إغراء المستهلكين وإغوائهم في الحقيقة بما تحمل كلمة إواء من معاني سلبية، واستمالتهم نحو شراء المنتج، بشتى أنواع التدليس والتزييف.
قواعد شرعية لتوجيه السلوك الاستهلاكي الأسري
هناك قواعد قرآنية ناطقة ناصعة البيان والدلالة سأثبتها بدون تعليق، وكفى بكلام الله تعالى بيانا وتفصيلا.
قواعد قرآنية:
قال الله تعالى :”وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَتُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.”( سورةالأعراف31).
قال الله تعالى :”وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً.” (سورةالفرقان67)
وقال الله تعالى: “وَلَاتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةًإِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَاتَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا” (سورةالاسراء 29)
وقال الله تعالى: “لِيُنْفِقْ ذُوسَعَةٍمِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا”(الطلاق: 7).
وقال الله تعالى: “وَلاَتُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوْا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.”﴿الإسراء: 26 – 27﴾.
قواعد منهجية لتوجيه السلوك الاستهلاكي الأسري
رتب حاجياتك وفق ميزانياتك:
دائماضع قائمة باحتياجاتك الأسبوعية والشهرية، والموسمية والسنوية، ورتب هذه القائمة ترتيبا تنازليا من الضرورات، إلى الكماليات، إلى الترفيهيات، وضع جدولا زمنيا لتحقيق وتوفير كل احتياج في حالة سماح ميزانيتك الخاصة، مع مراعاة الأولويات في كل ذلك.
لا للديون –القروض- مهما كانت الظروف:
الكثير من الناس يعتبر القروض – وأعني الشرعية منها – حلا طبيعيا لسد حاجياته كلما انقضى راتبه، ولا يعلم المسكين بأن تبير الظروف بأقل الإمكانيات، والاستفادة من دروس الحياة بتدبير المصروف وفق رؤية استشرافية حكيمة ومدروسة، وبعيدة عن المزاجية، هو أفضل الحلول على الإطلاق. ألميستعذالرسول- صلىاللهعليهوسلم – مِن “غلبةالدَّين،وقهرالرجال”؟ لذلك فالعاقل هو الذي يفرَّمِنالدَّينفرارهمِنالأسد حتى لا يفترسه،وكم من الناس من افترسته الديون، وأصبح مهموما بين الناس، بل منهم من هرب من الحياة بطرق أليمة بسبب ذلك.
ومن الصور المغرية – المغوية – في شأن الشراء بالقروض ما شاع في بعض المحلات من البيع بالتقسيط، فيفرح الكثير بشراء الجديد بالتقسيط وهو يتوهم أن ذلك مقدور وميسور، وينسى أنه سيدفع ثمن هذه الفرحة باهظًا إذا لم يستطع التسديد، ولن تشفع له إغراءات الإعلان، وتشويق الدعاية، وفرحته وسعادته بكل ذلك. ويجمع عليه ديون من هذا التقسيط ومن ذلك التقسيط ومن ذلك أيضا، وهكذا ..حتى يتمكن منه القرض فيصبح في الأرض حيران يقول يا ليتني ما فعلت.
ادخر 10 في المائة على الأقل من دخلك مهما كانت الظروف:
وهذا المسلك هو أفضل وسيلة للقضاء على كثرة الاستهلاك غير المجدي، وذلك بالتوفير للمستقبل، لأن الإنسان لا يعلم ما تخفيه الأيام في المستقبل، نسأل الله تعالى الخير في أيامنا كلها.
قواعد تربوية لتوجيه السلوك الاستهلاكي الأسري:
– قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أو كلما اشتهيت اشتريت.” حكمة عمرية خالدة، تعلمنا كيف نتحكم في نزواتنا وغرائزنا التي تدفعنا غالبا إلى الإسراف والتبذير.
– من الأقوال المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم :”نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع.” ومن كانت هذه عادته لم ير الطبيب طول حياته، ويكون قد وفر علي نفسه ثمن الطبيب والدواء، وربح الصحة والعافية والزيادة في ادخاره.
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم – :”ما نقص مال من صدقة”. وفي الصدقة بركات لا يعلمها إلا الله تعالى، ونجاة من الكثير من الابتلاءات. والصدقة زيادة في المال ومضاعفة له، قال تعالى “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون” (البقرة245 ). وفي سورة الحديد ” مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.” (سورة الحديد11)
وختاما فإنما الأسرة الناجحة هي الأسرة الحكيمة المحسنة في تصرفاتها، والتي لا تتأثر بالدعاية الإعلامية ولا الغواية الإعلانية، تملك إرادتها بالقوة والعزيمة الواعية، وتحسن إدارة مواردها المالية وفق الحكمة الإلهية، تدرك بعمق مقام الضروريات والحاجيات والترفيهيات، وتعطي لكل واحد مقامه بالميزان، ودون خسران، والله المستعان.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
بقلم محمد الإدريسي