د بلال التليدي يكتب: ترامب نتنياهو.. الخيار الذي ليس منه بد

قبل يومين، عبر المسؤولون الإسرائيليون عن استغرابهم عقد إدارة البيت الأبيض اتفاقا مع الحوثيين بوساطة عمانية على توقيف الهجمات المتبادلة، وذلك دون إطلاع تل أبيب، وبدا وكأن واشنطن تدير مصالحها بعيدا عن تل أبيب، بحكم أن الاتفاق لا يلزم الحوثيين بإيقاف هجماتهم على السفن الإسرائيلية، ولا يلزمهم بوقف هجماتهم عليها.
في الواقع، ليست هذه هي المرة الأولى، التي تدير فيها واشنطن التفاوض بشكل مباشر مع من تعتبرهم “جماعات إرهابية” دون علم إسرائيل، وحين تعلم بذلك، تعبر عن استغرابها وغضبها الشديد. فقد باشرت إدارة البيت الأبيض حوارا سريا مع حماس للتوصل إلى صفقة اتفاق لوقف الحرب على غزة، وقاد هذه المفاوضات آدم بولر مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشؤون الأسرى، وانتهت إلى نتائج مبشرة (قبول حماس) لولا الضغط الإسرائيلي، الذي أجبر الرئيس الأمريكي على تجميد هذا المسار، وتفعيل خيار الوساطة بين الطرفين عبر ستيف ويتكوف المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط إلى جانب كل من القاهرة والدوحة، والعدول عن خيار مفاوضات أمريكية مباشرة مع حماس من غير إسرائيل ودون علمها.
قد يبدو نزاع واشنطن للتفاوض بشكل أحادي، وبمعزل عن تل أبيب، ودون علمها، مرتبطا بمصلحة أمريكية صرفة، فما كان يبرر التفاوض مع حماس بشكل مباشر هو الإفراج عن الأسير الأمريكي عيدان ألكسندر المحتجز لدى حماس، وما برر التفاوض غير المباشر مع الحوثيين هو حجم الأضرار العسكرية والاقتصادية التي تعرضت لها حاملات الطائرات الأمريكية والسفن العسكرية، فضلا عن تضرر المصالح الأمريكية بفعل استهداف سفنها التجارية في البحر الأحمر وبحر العرب.
لكن في الواقع، ثمة ما هو أكبر من مجرد مصالح خاصة تديرها واشنطن بعيدا عن حليفتها تل أبيب، فالالتقاء التكتيكي الذي حصل على مستوى رفع عنوان تهجير فلسطينيي غزة، وتحويل غزة إلى مشروع عقاري وسياحي واعد، قد أشرف على النهاية، بسبب صمود المقاومة الفلسطينية، ورفضها الخضوع لمطلب الإفراج عن الأسرى دون مقابل من وقف الحرب والانسحاب من كل غزة، ورفع الحصار وإعادة الإعمار، لتعود المشكلة إلى نقطة البداية: أي: قضية “اليوم التالي” بالمفهوم الإسرائيلي، فتل أبيب لا تملك أي رؤية بالمطلق لمستقبل غزة سوى ما كان من خيارات عدوانية جنونية، ترتكز على التجويع والتعطيش والقضاء على أي فرصة للحياة في غزة، لإجبار أهلها بالقوة وتحت النيران للهجرة، وفصائل المقاومة إلى اليوم، تفشل هذا الخيار بمزيد من الصمود، وبقدر كبير من التصدي العسكري المدروس.
التفسير الذي نطمئن إليه، أن الخلاف بين واشنطن وتل أبيب بدأ يتسع بشكل كبير، وأنه لم يبدأ فقط في اللحظة التي خرقت فيها تل أبيب اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، ورفضت تطبيق المرحلة الثانية منه، بل تعمق في اللحظة التي أضحت فيها تل أبيب تتصرف خارج أي رؤية استراتيجية، تخدم مصالحها فضلا عن مصالح واشنطن، إذ بدا من سلوكها العدواني، واستباحتها العدوان العسكري على أكثر من دولة (لبنان ضدا على اتفاق وقف إطلاق النار، وسوريا) وخططها لضرب البرنامج النووي الإيراني، أن قيادتها تتصرف بوحي من استدامة وضع سياسي وحكومي أكثر منه تفكيرا استراتيجيا مبنيا على حسابات مدروسة.
أكبر عدو ضد نجاح مسار التطبيع كما تتصوره واشنطن هو نتنياهو، وأن العودة إلى ما تحقق من مسار التطبيع، أضحت تتطلب الخيار الذي ليس منه بد، وهو التضحية بحكومة يمينية متطرفة.
زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ولقاؤه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كشفا جانبا من هذا الخلاف، إذ في الوقت الذي كانت فيه تل أبيب تسعى إلى توحيد خطط عسكرية لضرب البرنامج النووي الإيراني، كان الرئيس الأمريكي، يفكر بشكل جدي في مفاوضات إيجابية مع طهران، لا تدمج ضمن اعتباراتها قضية محور إيران الإقليمية، بل ولا تمنعها من حقها في إقامة برنامج نووي لأغراض سلمية.
وسائل الإعلام الإسرائيلية توقفت كثيرا على خيبة رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكيف خرج من البيت الأبيض خالي الوفاض، لتفاجأ بانطلاق مسار إيجابي من المفاوضات مع طهران بوساطة عمانية، ولم يتردد عدد كبير من المحللين الإسرائيليين للقول بأن واشنطن لم تعد واثقة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأنها لن تعرض مصالحها الاستراتيجية في المنطقة لمجرد دعم حكومة لا تملك أي رؤية، بل تحمل رؤية عدمية تعرض مصالح واشنطن للتهديد.
قبل يومين، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنه بصدد زيارة لمنطقة الشرق الأوسط، وأنه بصدد إطلاق إعلان مهم، وأن هذه الزيارة ستتزامن مع إنهاء جزء من الأزمة الإنسانية في غزة، بإدخال المساعدات الإغاثية إلى القطاع، ولم يتحدث عن أي تهجير، وبتزامن مع ذلك، شن فيه الجيش الإسرائيلي غارتين على جنوب لبنان بزعم استهداف هدف مهم من حزب الله.
تركيب هذه المعطيات يفيد بتعمق الخلاف الأمريكي الإسرائيلي، وأن واشنطن باتت مقتنعة بأن تأمين مصالحها في المنطقة يتطلب نجاح صفقة المفاوضات مع إيران، واستمرار الاتفاق مع الحوثيين، وإيقاف الحرب في غزة، وتوقف تل أبيب عن استهداف كل من لبنان وسوريا، وأن تل أبيب، على النقيض منذ ذلك، ترى أن التوافق مع واشنطن في هذه النقاط تعني نهاية حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل نهاية مساره السياسي، وتعرضه للملاحقة القضائية، ولذلك، تبحث عن خيارات لتأجيج الصراع والتوترات، لجر واشنطن إلى طاولة التسوية، وإلا فإن كل الخيوط ستنفلت، وستفقد واشنطن القدرة على إدارة هذه الملفات جميعها.
في السابق، أدارت تل أبيب لعبة الضغط على واشنطن باقتدار، فقد فتحت زمن جو بايدن جبهة القتال مع لبنان لتضيق خياراته في الضغط عليها، ولحظة صعود دونالد ترامب وجدت في حديثه عن التهجير تمسكها للمضي في سياستها العدوانية، وهي اليوم، تسعى إلى تبئير المشهد عسكريا لكي تمنع واشنطن من أن تمضي بدونها في تأطير المنطقة برؤيتها الاستراتيجية الجديدة.
اليوم، تل أبيب في وضع أضعف عسكريا (الجاهزية العسكرية لجنود الاحتياط) واقتصاديا (كلفة توسيع العملية العسكرية) وسياسيا (تزايد الضغط السياسي عليها من قبل المعارضة والشارع الإسرائيلي) واستراتيجيا (عدم وجود أفق لما بعد توسيع العملية العسكرية بغزة) بينما تشتغل واشنطن بمسار واحد عنوانه وقف التصعيد والتوتر والحرب في كل الجبهات، وخلق شرط استئناف مسار التطبيع، وهو ما لا يمكن ضمان نجاحه بدون نهاية حكومة بنيامين نتنياهو.
هناك ما يدفع للاعتقاد أن إفشال المقاومة الفلسطينية لمخطط التهجير، وممانعة الدول العربية له، ومضي تل أبيب في خلق مزيد من التوترات في المنطقة بدون رؤية للمستقبل، رجحت لدى الإدارة الأمريكية استحالة تحقيق أي هدف استراتيجي يخدم إسرائيل نفسها دون زوال حكومة بنيامين نتنياهو، وأن أكبر عدو ضد نجاح مسار التطبيع كما تتصوره واشنطن هو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأن العودة إلى ما تحقق من مسار التطبيع، فضلا عن استئنافه، أضحت تتطلب الخيار الذي ليس منه بد، وهو التضحية بحكومة يمينية متطرفة، لم تترك أي أفق لا لحياة الفلسطينيين، ولا لإنهاء الحرب، ولا لجر العرب أو ما تبقى منهم لمسار التطبيع، لتحقيق الهدف الأمريكي باندماج “إسرائيل” في محيطها الإقليمي.