بين الكيان الإسرائيلي وروسيا.. فلسطين تفضح ازدواجية معايير الجنائية الدولية
في العام الثاني والعشرين على تأسيسها، تواجه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بـازدواجية المعايير بسبب بطء تحقيقها في ما يتعرض له الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة بسرعتها في التحقيق بشأن أوكرانيا.
ومنذ بدء سريان اتفاق تأسيسها وفق نظام روما الأساسي مطلع يوليو 2002، تعرضت المحكمة (مقرها في لاهاي بهولندا) لانتقادات كثيرة بلغت ذروتها مع حرب “إسرائيل” المستمرة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي.
وبدعم أمريكي مطلق، أسفرت الحرب على غزة عن أكثر من 125 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد عن 10 آلاف مفقود وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال.
وبموازاة ذلك، صعَّد جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاته بالضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، فاستشخد 560 فلسطينيا، بينهم 136 طفلا، وأصاب نحو 5 آلاف و300 واعتقل حوالي 9 آلاف و510، وفق جهات فلسطينية رسمية.
حرب روسيا وأوكرانيا
في 11 ديسمبر 2020، أكملت المدعية العامة للمحكمة آنذاك فاتو بنسودا (2012-2021) دراستها الأولية للوضع في أوكرانيا، ثم بدأت المحكمة تحقيقا بشأن الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة منذ فبراير 2022.
وأصدرت المحكمة في مارس 2023، مذكرتي اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا بيلوفا؛ بتهمة المسؤولية عن ارتكاب جرائم مزعومة خلال الحرب.
كما أصدرت مذكرتي اعتقال بحق أمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو (وزير الدفاع الروسي السابق)، ورئيس الأركان العامة الروسي فاليري غيراسيموف. وإجمالا، أصدرت المحكمة بين مارس 2023 ويونيو الماضي مذكرات اعتقال بحق 8 مسؤولين روس على خلفية الحرب في أوكرانيا المدعومة من الغرب.
و رغم أن روسيا ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك أوكرانيا لكنها منحت المحكمة اختصاص البت في الجرائم المزعومة على أراضيها. وبينما أصدرت مذكرات اعتقال بحق مسؤولين روس رفيعي المستوى، لم تصدر المحكمة حتى اليوم أي مذكرة اعتقال بحق مسؤولين في كيان الاحتلال الإسرائيليي، منذ أن بدأت التحقيق في الانتهاكات بالأراضي الفلسطينية في مارس 2021.
وفي 20 مايو الماضي، طلب مدعي عام المحكمة كريم خان إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها يوآف غالانت؛ لمسؤوليتهما عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بغزة.
ويواصل الاحتلال عدوانه على غزة متجاهلا قراري مجلس الأمن الدولي بوقفها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية بإنهاء اجتياح رفح (جنوب)، واتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية، وتحسين الوضع الإنساني المزري بالقطاع.
وللعام الـ18، تحاصر قوات الاحتلال قطاع غزة، وأجبرت حربها نحو مليونين من سكانه، البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون فلسطيني، على النزوح في أوضاع كارثية، مع شح شديد في الغذاء والماء والدواء. ورغم استمرار الحرب على غزة، فإن الميزانية والموارد البشرية التي خصصها مكتب خان للتحقيق في فلسطين، وفق منتقدين، أقل بكثير مقارنة بما خصصته المحكمة الجنائية لملف أوكرانيا، ما زاد الانتقادات الموجهة للمحكمة.
والمحكمة الجنائية هيئة دولية مستقلة غير تابعة للأمم المتحدة أو أي مؤسسة دولية أخرى، وتعد قراراتها ملزمة، لكن كيان الاحتلال وحليفته الولايات المتحدة لا يعترفان بالولاية القضائية للمحكمة، التي قبلت عضوية فلسطين عام 2015.
ضغوط أمريكية و”إسرائيلية”
عبر تصريحات علنية وتحركات خلف الستار- كما تؤكد ذلك وفق تقارير إعلامية- تضغط إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على المحكمة؛ لمنعها من إصدار مذكرات اعتقال بحق أي مسؤول إسرائيلي. وتوعد أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي بتداعيات سلبية على المحكمة وموظفيها، في حال أصدرت مذكرة اعتقال بحق نتنياهو أو أي مسؤول “إسرائيلي” آخر.
كما يمارس كيان الاحتلال أنشطة تجسس وترهيب ضد المحكمة؛ لوقف تحقيقاتها بشأن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي يونيو الماضي، استدعت الخارجية الهولندية سفير إسرائيل مودي أفرايم؛ لتقديم تفسيرات بشأن تقارير عن تنفيذ جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) عمليات مراقبة وتجسس سرية استهدفت المحكمة الدولية.
وكشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية في مايو الماضي، أن الرئيس السابق لجهاز “الموساد” يوسي كوهين هدد بنسودا بأمن أسرتها، خلال اجتماعات سرية في إطار الضغط عليها للتخلي عن التحقيق بخصوص فلسطين. وجرت اتصالات سرية بين كوهين وبنسودا في السنوات التي سبقت قرارها فتح تحقيق رسمي في جرائم الحرب الإسرائيلية بالأراضي الفلسطينية المحتلة.
تدخل بريطاني
وفي 27 يونيو الماضي، قرر قضاة المحكمة السماح لبريطانيا بتقديم حجج قانونية في القضية، بينما يدرسون ما إذا كانوا سيوافقون على إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت.
ومن شأن الخطوة البريطانية المرتقبة أمام دائرة الفحص الأولي للمحكمة، حسب صحيفة “الغارديان”، أن تؤخر قرار القضاة بشأن مصير الطلبات التي تقدم بها المدعي العام. وتدعي بريطانيا أن فلسطين ليس لها الحق في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر قبول نظام روما الأساسي، وبالتالي لا تملك المحكمة سلطة التحقيق في الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
يذكر أنه منذ 2012، تمتلك فلسطين وضع “دولة مراقب غير عضو” بالأمم المتحدة، ويحول استخدام واشنطن لسلطة “النقض” (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي دون حصول الفلسطينيين على عضوية أممية كاملة.