بين القلب والعقل – بنداود رضواني
مسلمون نحن بالقلب و العقل معا؟
أم أننا نتعاطى خلاف ذلك إسلاماً سلبت منه مشاعر القلب ومؤثراته…؟
أو نزعت منه أفكار العقل و تصوراته…؟
أم غاب العقل والقلب معا عن إسلامنا على حد سواء؟
لقد تَهَكَّم جان جاك روسو على من توهم أن الفضيلة تتأسس على الإيمان العقلي وحده، دون أن يكون للوجدان يد في إبراز قيم الخير وفضائله.
فمشاعر و أفعال الخير – في رأيه – نابعة من قلبه، و أن الإنسان كائن خيّر بطبعه، يحب العدالة والنظام، وانه لا يوجد شذوذ أصلي في قلبه، وأن أول الحركات في الطبيعة هي دائما خيرة…
وفي مدرسة الفكر الإسلامي نجد محمد الغزالي رحمه الله قد أقام عموم مؤلفاته على أساس نقد ومراجعة فريقين من الناس، نقد أولئك الذين ربطوا التمسك بقيم الدين وفضائله بالعقل فقط، وعاب في المقابل على آخرين جعلوا القلب وحده ركيزة التدين وأساسه..
وقد بقي هذا ديدنه منافحا عن هذا الأمر عبر التأليف والتدريس والخطابة…، إلى أن انتهى به المطاف إلى خلاصة موجعة: أن القرآن الكريم والسنة المطهرة في واد، و تدين المسلمين حينئذ في واد آخر…!!!
و حتى اليوم، لا زالت الأدواء هي نفسها تنخر كيان المجتمعات الإسلامية، وأصداء الوصفات العلاجية للغزالي وغيره من رواد المدرسة الإصلاحية تتردد في الآفاق هي نفسها، لكنها للأسف مهملة ضائعة، لا آذانا تلقفتها ولا قلوبا تشربتها…!!
ويبقى مرد ذلك كله، أن علاقة المسلمين بربهم لا تزال كليلة، إن لم تكن منفصمة….، فالغالبية مسلمون بالفكر والعقل، ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، لقمان/25، سقف تصوراتهم العقيدية والإيمانية لم يتجاوز أفكارا سطحية جوفاء سَلَبت من القرآن روح الهداية ورفعت عنه القصد من الأمر والنهي الذي قامت عليه الرسالة المحمدية في المقام الأول.
ودون مغالاة أو مبالغة، فهذا النوع من التدين لن يلبي حتما حاجاتنا القلبية ومطالبنا الفطرية والتي تمثل الشطر المهم من كينونتنا، ما دمنا نرهن إصلاح أحوالنا وحل مشاكلنا بتدبير العقل وحده.
ولمزيد من البيان، يصادف المرء في أحايين كثيرة و دون سابق تدبير أناسا قد اجتمعوا يتحدثون بينهم عن الإسلام وعظمته، وكيفية الدعوة إليه، وواجب النهوض به، ومسؤولية المسلمين في هذا العصر، والعقبات التي تتربص بالمصلحين منهم، حديثهم فيه نشوة ولذة، وينضح بالحماسة والشدة، فإذا ارتفع الأذان للصلاة تسمروا في مجلسهم دون حراك، فينتهي صوت الأذان وقد تلاشى في ضوضاء الحديث وصخبه !!!.
أما الصلاة فقد توافقوا بلسان الحال أن يؤديها كل في بيته بعد أن ينفضوا !!!
فحال هؤلاء هو حال العديد ممن تشربت عقولهم بأفكار الإسلام وتصوراته، لكن – للأسف – قلوبهم صِفْر من مشاعر الحب لله، خالية من أحاسيس التعلق به سبحانه.
إن أول ما نهض به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل بناء الدولة الإسلامية أن بنى لله بيتا، ليكون مهوى الأفئدة، ومجمع القلوب، و منطلق البر والتقوى…
لقد استنهض عليه الصلاة والسلام الصحابة رضي الله عنهم لهذا العمل وهو يرجو عمارة قلوبهم بمحبة الله ومحبة نبيهم، ويطمع في تحريرهم من أثقال الشهوات وأغلال الماديات، انطلاقا من الوصفة القرآنية، ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )، البقرة/45.
إن أمضى سلاح بعد سلاح توحيد الله جل جلاله هو سلاح العبودية لله، بهما نواجه رعونات النفس وتسلط الهوى، ونذلل العقبات ونتجاوز المعيقات….
والدعاة إلى الله اليوم، لن ولن يقتفوا خطى الدعاة الأوائل، إلاّ إذا جعلوا قلوبهم أوعية لمحبة ربهم، واهتاجت الأشواق إلى نبيهم بين جوانحهم، و انتشلوا نفوسهم من لجج الأهواء والشهوات. ف “من وَطَّن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة. إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همته بخدمته “، الفوائد- لابن القيم رحمه الله.