بن صالح يكتب: لن تعقُم الأرحام في المغرب عن إنجاب العلماء الأعلام.. في نعي الشيخ الفقيد “بوخبزة الحسني”
كنّا فتيانا قد حُبِّب إلينا التدين وملازمة المساجد والمشاركة في المسابقات القرآنية بثانوية القاضي بن العربي التليدة، وتنظيم دروس ومواعظ في الأدب والتاريخ والوعظ في أوقات الفراغ، وإقامة صلاة العصر والمغرب خلف أستاذنا لمادة الفقه، ونأتِ دُور القرآن لحِفظ ما تيسر من الذكر الحكيم..، ولمّا كان مسجد سيدي طلحة بتطوان في طريق عودتنا من الدراسة لمنازلنا، وكان قد بلغنا حضورُ عالمٍ ومفسِّر كبير لتأطير المواطنين ووعظهم، عزمنا على الاستفادة من دروسه.
كانت جنبات مسجد سيدي طلحة يومي الأربعاء والخميس عقِب صلاة المغرب تغصّ بالمصلين من كل أنحاء تطوان العامِرة، وكنا من بينهم أشدّ ما نكون حرصا لحضور دروس الحديث والتفسير التي يلقيها فضيلة الشيخ سيدي “محمد بن الأمين بوخبزة الحسني”، الذي سبقَ اسمُه وذِكره ومواقفه إلينا صورَته وهيئته. ومن أقدار تلك الدروس، أنها أتت في سياقٍ كان السجال فيه محتدما بين السلفيين وغيرهم، لا سيما في أعقاب أحداث 2003 وتفجيرات مدريد سنة 2004، وفي عز معركة حزب الله ضد الكيان الصهيوني صيف 2006، بالموازاة مع انطلاق سلسلة مهرجانات الميوعة ومسابقات الغناء في لبنان وتونس والمغرب؛ الأمر الذي كان يُلقي بظلالِه على جوّ الأسئلة والأجوبة بعد انتهاء حصة الدروس. وقد تابَعْنا بانشداد وإعجاب وقِلة وعي وإدراك؛ دروس الشيخ وقدراته الفذّة على المناظرة والحجاج والهُزْء بأسئلة بعض الأشخاص، ونظراته المتجددة في القرآن الكريم.
كانت لحظات تَلَقّي الأسئلة مكتوبة وشفهية _أحيانا_، وإجابة الشيخ عنها؛ من أمتع سويعات حديث الأربعاء والخميس، تنشدُّ إليها الأذهان، وتتطلع الرقاب لسماعِ فتاوى العالِم وأجوبته الشرعية الممزوجة بفقه الواقع، وهو المعروف بقوة الذاكرة وسرعة الحفظ والنباهة وسَعة المطالعة وصَبر نادرٍ على التحرير والكتابة، وبالمعرفة المتخصِّصة في شتّى العلوم الشرعية والعربيةوبِحسِّهِ الفَكِهِ ونبرته التطوانية الأصيلة وتشبّعِه بالأمثال المغربية؛ كان الشيخ يَقْلب الطاولة على أسئلة بعض السّّذّج والمتمسخرين منه، وتارة كان يقرأ السؤال فيعلم يقينا أنه مكتوبٍ بأيْدٍ (أَمنية مَخزنية) فيتهكّم منه ومن واضعه، ويلوّح بموقفٍ ثابت في نازلة معينة، ولا يُمالئ جهةً ولا يُداري في شرع الله وسُنة نبيه وزارة ولا ولايةَ أمنٍ ولا سلفيا متحجرا..، أمّا إنْ وقَعت بين يدي الشيخ أسئلة في قضايا الزواج والطلاق ونكاح المتعة وخروج الرّيح وأحكام الوضوء والاغتسال والقبور والأعراس؛ فتللك لحظة متعةٍ للشيخ وللحاضرين، في أجواءَ لا يفقِد معها الشيخ وقاره وهيبته وثِقْل العِلم الذي يحمله، وهو القصير القامة المتواضع الذي لا تكادُ تلمحُ هيئته مِن عَلى كُرسي الوعظ بالمسجد. كانت تُثير أجوبته حنق البعض، فتتعالى الهمهمات والردود في المسجد، كما كانت تمتِّع البعض فتختلط الضحكات بالتعجب والرغبة من مزيدٍ من الإنصات للشيخ، كما كانت تخلِّف أثَرا ونقاشا يمتد خارج أسوار الجامِع، فتجِدُنا نتجادل على أرضية أجوبة الشيخ ومضمون درسه قُبالة باب المسجد، وننقُل الطُّرفَ والتهكّمات التي سمعناها منه إلى رفاقنت بالمدرسة، بل أضحت نِكاته التي “يشْوي” بها البعض ويتندّر على آخرين؛ كثيرةَ التداول بيننا معشر المراهقين.
انصرمت ثلاث سنوات؛ والشيخ يلقي الدرس تلو الدرس، ويحاضر في معهد الإمام الشاطبي، ومرارا التقيناه يقتني كتبا جديدة بمكتبة (الأثرية) وسْط المدينة، أو يَعبر من ممرّ الراجلين قرب بريد شارع محمد بن عبد الكريم الخطابي متّكئا عصاه وقاصدا بيته..؛ إلى أنْ بلَغنا خبر توقيفه من قِبل وزارة (التوفيق) عن ممارسة الوعظ والإرشاد بالمسجد المذكور، فانقطع عنا وانقطعنا عنه، وصار المسجد لا يؤدي غير وظيفة إقامة الصلاة فيه والجُمَع، بوُعاظ لا ينصت إليهم أحد ولا يبلِّغون ما يُفتَرَض فيهم تبليغه، فخَلا، وخَلت جوانبه من باعة الروائح العطِرة وعود الأرك وأقراص القرآن ودروس (الكشك)، واندثرت بغيابهم السجالات الحامية، وافتقَدنا الشيخ سنوات عديدات، ما عدا أننا كنا نراه يعبر الشوارع أو يمر في ساحة (مولاي المهدي) متأبِّطا كُتبا كعادته.
وها هوذا اليوم يغادرنا إلى دار البقاء، تاركا مساجد تطوان ومنابرها يتيمة، وساكنة المدينة تبكي عالِما وعَظَ وحذّر وبشّر وعلّمَ وشذّب أظافر الغلو والتطرف وساهم بقسط وافر في الدعوة الإسلامية ومناصرة الحق والسنّة.
فإلى الله في الخالدين، ولن تُقفِر أرض الأولياء والعلماء عن إنجاب وإنتاج العلماء العاملين.
بقلم: عدنان بن صالح