بنينير يكتب في رسالة الإصلاح : القَيِّم الديني واقع وتطلعات وآفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن مهمة القَيِّم الديني مهمة شريفة ومحترمة، وشرف المهمة هو من شرف العمل: فهي تستمد أهميتها من قدسية الشعائر الدينية، التي يسهر القيم الديني على رعايتها مع جماعة المؤمنين، في أوقاتها المخصوصة وأماكنها المعهودة، فإقامة الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة التراويح، وصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، وتلاوة الورد القرآني، والسهر على بيوت الله فتحا وإغلاقا ونظافة وغير ذلك، كل ذلك يرتقي بمكانة القيم الديني عند الله وعند الناس، ويحمله مسؤولية كبرى تجعله في شغل دائم وهم لازم، ولا ترتاح نفسه ويَهْنأُ قلبه إلا بعد تأدية مهمته على أحسن وجه، ومع ذلك يظل الشعور بالتقصير حاضرا لدى القيم الديني الذي يطمح دائما إلى الأفضل.
تاريخ خدمة أماكن العبادة عند بني إسرائيل:
إن خدمة المعابد والصلوات والمساجد وغيرها مهمة قديمة قِدمَ التاريخ، فقد كان للكَهنة خُدام المعابد مكانة كبرى في جل الديانات، فقد كان والد سلمان الفارسي مثلا من كهنة المجوس، وكان يسهر على خدمة نارهم حتى لا تخمد، وكان يستعين بولده سلمان في مهمته تلك إلى أن تَنصَّر سلمانُ وفر من والده وقومه، ثم هاجر إلى المدينة وأسلم، وصار من خيرة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويحدثنا القرآن الكريم عن امرأة عمران من بني إسرائيل واسمها حَنَّة رضي الله عنها حين نذرت ما في بطنها لله، قال تعالى: «إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّيَ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» آل عمران: 35. وفي شأن هذا النَّذر يقول ابن عطية الأندلسي في تفسيره: «أي جعلتُ نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمةِ بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا … والبيتُ الذي نذرته له هو بيت المقدس»( المحررالوجيز1/424)، وقد رزقها الله تعالى مريم عليها السلام وتقبل نذرها، فكانت في كفالة نبي الله زكرياء عليه السلام زوج خالتها، ونشأت في أحضان بيت المقدس : «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفلَهَا زَكَرِيَّاءُ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّاءُ الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» آل عمران: 37.
تاريخ خدمة البيت عند العرب قبل الإسلام:
يحدثنا القرآن الكريم عن الجدل الذي أثاره مشركو قريش حيث ادعوا أفضليتهم على المسلمين بسدانة (خدمة) البيت وسقاية الحجيج، وحصل بعد ذلك اختلاف بين بعض المسلمين بعد الفتح عما هو الأفضل: السدانة أو السقاية أو الجهاد؟ فقد روي بسند فيه ضعف أنه افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب. فقال طلحة: أنا صاحب البيت (الكعبة) معي مفتاحه لو أشاء بِتُّ فيه. وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها لو أشاء بِتُّ في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولان؟ لقد صليت إلى القبلة ستةَ أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنَ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» التوبة: 19. ويعلق الطاهر بن عاشور على هذه الآية بقوله: « ظاهر هذه الآية يقتضي أنها خطاب لقوم سَوَّوْا بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أنَّ كلَّ ذلك من عمل البِر، فتُؤْذِنُ بأنها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بِعِلَّة اجْتِزائِهم بالسقاية والعمارة»( التحرير والتنوير10/142).
خدمة أماكن العبادة في الإسلام:
لما انتصر الإسلام على الشرك والوثنية ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحا منصورا من قبل الله عز وجل، وتسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة «جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ رَضِي اللهُ عَنْهُ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ… فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ” ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ “هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ الْيَوْمَ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ”( الروض الأنف (7/ 74-75)حسنه الحافظ في فتح الباري (8/ 19). وأبقى السقاية في يد عمه العباس رضي الله عنه كما كانت عنده في الجاهلية، وهكذا استمرت خدمة المسجد الحرام قائمة كما كانت، ولكن بضوابط الدين الحنيف لا بتقاليد الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يتابع بنفسه الشريفة طهارة المسجد النبوي ويكرم القائمين على خدمته، فقد روى الشيخان عَنْ يَزِيد بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، – أَوْ شَابًّا – فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم فَسَأَلْ عَنْهَا ، – أَوْ عَنْهُ – فَقَالُوا: مَاتَتْ، قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا – أَوْ أَمْرَهُ – فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَاتَتْ ظُهْرًا وَأَنْتَ صَائِمٌ قَائِلٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا فَدَلُّوهُ، -عَلَى قَبْرِهِ- فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: لَا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عزَّ وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ. وفي رواية: (فَإِنَّ صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ)( البخاري/بَابُ الخَدَمِ لِلْمَسْجِدِ).
المغرب على هدي الإسلام في خدمة أماكن العبادة:
ومما يحمد لوطننا المغرب أنه نظم خدمة بيوت الله في إطار ما اصطلح عليه ب: “القيمون الدينيون”. وهي فئة متعاقدة مع وزارة الأوقاف دورها العناية ببيوت الله وعمارها. وقد حدد مهامها وحقوقها الظهير الشريف رقم 1.14.104 الصادر في 20 من رجب 1435هـ (20 ماي 2014) . وهي فئة تضم الممارسين لمهام دينية: الإمام – المؤذن- الخطيب- المرشد (ة)، كما تضم الذين أنيطت بهم مهام تقنية: المنظف (ة)- الحارس- المراقب.
المـهـام الأساسية:
تتمثل المهام الأساسية في تأمين الوظيفة التي لأجلها تفتح المساجد، أي التوجيه والإرشاد وتذكير الناس بما يلزمهم من حقوق ربهم وحقوق غيرهم. ويتولى هذه المهمة الخطيب والمرشد والواعظ والإمام والمؤذن أيضا. إنها مهمة جليلة تحتاج من صاحبها أن يكون قدوة في كل ما يرتبط بمعاني الخير وخصال الفضيلة، وهو ما توحي به تسمية الإمام والتي تدل على معاني التأسي والمتابعة لكل ما يصدر عنه من قول أو فعل، ومنه قول الله جل جلاله لسيدنا إبراهيم عليه السلام: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» [البقرة: 123]، وقوله تعالى مادحا عباده المؤمنين الذين يدعونه بأن يجعلهم هداة وأئمة للمتقين: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» [الفرقان: 74] .
المهام المساعدة وضرورة الارتقاء بها:
أما المهام المساعدة فتتمثل في نظافة المسجد وحراسته، وهي لا تقل أهمية عن سابقتها إلا أنها مهام تقنية محضة. وقد رأينا كيف أولاها الشارع عناية خاصة، وكيف كان النبي عليه السلام يتفقد القائمين عليها. إنه بدون طهارة ونظافة وأمن لن يؤدي المسجد رسالته على الوجه الصحيح. قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]. قال سيد طنطاوي:” أي: هذا هو نور الله- تعالى- الذي يهدى إليه من يشاء من عباده، وعلى رأس أولئك هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه في تلك المساجد التي أمر- سبحانه- بتشييدها وتعظيم قدرها، وصيانتها من كل سوء أو نجس“.( التفسير الوسيط 10/131.)، ولا شك أن هذه المهمة الجليلة قد تحتاج إلى مساعدة ودعم من كل المصلين بالتنسيق مع القائمين على المسجد، وقد جرت عادة المغاربة خاصة عند استقبال رمضان ومواسم الخير بأن يقوموا بنظافة شاملة للمسجد، وأن يجمروه ويُعدوه لحسن استقبال رواده وعماره.
إن نجاح القَيِّم الديني في مهامه رهين باستحضاره لمبادئ الإسلام وقيمه العظمى وهو يزاول مهامه، لأنه أولا تحت رقابة عين الله الذي لا ينام، والذي لا تغيب عنها كل صغيرة وكبيرة، وهنا وجب التذكير بالإخلاص في أداء هذه المهام الشريفة والمقدسة، والتي لا يليق بصاحبها إلا أن يكون من الربانيين المخلصين «وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» آل عمران: 79. وهم الذين لا يرجون من الناس جزاء ولا شكورا، وإنما رجاؤهم في الله العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، حيث وصفهم الله بقوله: «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» الأعراف: 170. ثم هو ثانيا تحت رقابة أعين الناس التي لا ترحم، فالناس بقدر ما يمدحون ويبالغون أحيانا في مدح القيم الديني حينما يكون مُوفَّقا ومُسدَّدا، فإنهم مقابل ذلك لا يَتَوانوْن في النقد والمبالغة في النقد أحيانا حينما تبصر أعينُهم بعضَ العثراتِ والمساوئ التي قد يقع فيها القيم الديني، وصدق الشاعر إذ يقول:
وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ // وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا
بين تعفف القَيِّم الديني وسخاء عُمَّار المسجد:
إذا كانت الوزارة لا تدخر جهدا في تأمين حاجيات القيم الديني، من حيث الرفع التدريجي من المكافأة وتأمين التغطية الصحية له، إضافة لبعض الأعمال الاجتماعية التي تقوم بها مؤسسة محمد السادس للقيمين الدينيين، فإن القيم الديني مطالب بأن يكون زاهدا فيما عند الناس متطلعا لما عند الله تعالى من فضل وكرم، فإن ذلك لا ينفي الحاجة إلى إكرامه والعناية به، ودعمه ماديا من طرف المصلين. وقد جرت عادة المغاربة أن يتناوبوا على أداء الشرط للإمام والمؤذن في البوادي والحواضر.
لقد تميز عامة أفراد المجتمع المغربي بحبهم لعامة أهل الله من حملة كتاب الله والعلم الشرعي، ويزداد هذا الحب درجة لأئمة المساجد والقيمين عليها، ومن ثمار هذا الحب أن يتنافس الناس في إكرام أهل الله، ولا زال هذا الإكرام قائما في حياتنا إلى يومنا هذا، ونحن ندعو إلى استمراره شريطة أن يكون خالصا لوجه الله الكريم، وأن لا يقصد به الرياء والسمعة، أو أن يستدرج الإمام من خلاله إلى أعمال مشينة (الشعوذة مثلا).
ولذلك ننصح أنفسنا وعامة المغاربة أن نحافظ على تقاليدنا وأعرافنا الإسلامية في إكرام وتكريم أهل الله من حملة القرآن والساهرين على عمارة بيوت الله، وأن نعمل ذلك لوجه الله الكريم في سِرية وتكتم بيننا وبين الأئمة، حتى لا نجرح كبرياءهم أو يُحِسوا بالدُّونية والضعف أمامنا، بل نُكْرمهم ونعتذر لهم عن تقصيرنا في إكرامهم، ونجعل ذلك قربة عند الله ندخرها ليوم الحساب مستحضرين قولَ الحق سبحانه: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا» الإنسان: 9، 10، وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ»(الطبراني/الكبير(8/
وختاما ندعو لأئمتنا والقيمين على مساجدنا بالتوفيق لهم في أداء مهامهم ورسالتهم، ونسأل الله أن ييسر أمرهم ويكفيهم ما أهمهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وأن يجعلهم منارات هدى يهتدي بها الخاص والعام، والصغير والكبير، والذكر والأنثى. والحمد لله رب العالمين.
د. محمد بنينير