انتصار الموت وهزيمة الحياة – سارة الحمداوي

غزة بقعة الأرض الصغيرة حجما المكتظة صبرا والتي لم يعد يحلق في سمائها سوى الموت، قصفا كان أو جوعا أو نزوحا، فهي صورة جديدة للتغريبة الفلسطينية لكن بشكل أكثر بشاعة وأقسى ألما مما تصوره خيال المخرجين، حتى أنه تجاوز كل ما قيل عن مجازر التاريخ والتي لطالما قلنا عنها أن فيها الكثير من المبالغة حتى رأينا في غزة مالم يره راوي أو يدونه كاتب أو يحدث به إنسان وصلتنا أخباره.

ولكن مع كل هذا الموت، في غزة صور الانتصار عليه عديدة ومستمرة ومخجلة أمام أمة تدّعي أنها تعيش الحياة خارج معابرها، ولنبدأ بصورة الانتصار الأولى:

ككل إنسان سوي تمر أمامه مقاطع أهل غزة يرى عائلة تودع شابا من شبابها وهو في طريقه إلى الموت، وهل تعرفون لماذا يسمى طريق الموت؟ ليس لأنه يتجه نحو لحظة اشتباك مع قوة من قوات الاحتلال أو مكان أنذر بقصفه، ولكن هذا الشاب يكون في طريقه إلى نقطة تسلّم المساعدات والتي يعلم جيدا أنه سيتعرض فيها لوابل من الرصاص قد يصيبه وربما يخطئه، فلعله يعود بكيس الطحين ذاك منتصرا على لحظة الموت ومتوجا بطلا ضد الجوع لأيام قليلة ستمتلئ فيها مائدة أهله بأرغفة الخبز وسيتخلصون خلالها من قرقرة البطون ودوار الجوع وصداعه، ثم سينتهي الكيس وسيعود البطل ليخوض معركته ضد الموت من جديد فهل ينجيه قدره هذه المرة كذلك أم أن ساعة أجله قد حانت عند كيس الطحين؟

صورة ثانية لطفل تحدثه أمه عن أبيه الشهيد وكيف أنه تحمل ألم الفقد، ثم يخبرها أنه عندما سيلحقه إلى الجنة سيجد الشكولاتة التي يشتهيها والتي لا يجدها اليوم على أرض غزة، أوليس هذا انتصارا كاسحا على الموت؟ يرسمه طفل لم يتجاوز السادسة من عمره وأم أصبحت توقن أن الخوف لم يعد خيارا متاحا في روتين اليوم عند هذا الشعب، وأن الاستسلام لله وحده هو ما يبقي عقولهم وأفئدتهم صامدة وصابرة ومتيقظة.

وآخرون يظهرون في مقاطع يشرحون عن كيفية وضع الحجر على البطن كي تخف آلام المعدة، ومراسلون يترنحون أمام عدسات الكاميرات وهم ينقلون تفاصيل إبادة التجويع هذه والتي لم يكن سببها جفاف أو كارثة، وغيرها الكثير من الصور والألم والمعاناة …

لكن الصورة الأقسى علينا وليس عليهم عندما نشاهدهم يقولون نحن خصومكم أمام الله يوم القيامة فلا أنتم أطعمتم جائعنا ولا أنتم آمنتم خائفنا، بل جوعتمونا بحصار فرضه علينا البعيد وشد وثاقه علينا القريب، ويا للأسف فإنهم لم يجدوا بيننا بعد ونحن المسلمون “هشام بن عمرو” هذا الزمن في أفراد أو مؤسسات أو دول، للتقدم في أول خطوة مؤثرة نحو فك الحصار عنهم.

في مقابل كل هذا خارج غزة حياة مختلفة لا جوع فيها ولا قصف ولا نزوح ولا حصار، ولكنها حياة منهزمة، انهزم فيها صوت العالم الجليل الذي أُلجم عن غزة وتحدث فيما عداها، وقد يبرر لنفسه بأن يقول إن تكلمت عن غزة فقد أتوقف عن إيصال علوم الدين للمسلمين، وكأنه لم يبلغه أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة البيت العتيق.

وانهزم فيها كذلك موقف النخبة التي تعمل باحتشام على رفع مستواها التضامني والنضالي، نخبة تختلف أحيانا حتى على أماكن التظاهرات وأوقاتها والبعض قد يحدد حتى من يشارك ولا يشارك فيها، وبعض هذه النخبة أَغرق في نقاش التقديرات السياسية والنتائج العسكرية وما الذي كان يجب أن يكون وما الصواب وما الخطأ، في وقت يجب أن نعلم جميعا أن أهم ما لا يجب أن يجوع أخاك وأن لا تستطيع أن توصل إليه قنينة ماء أو كيس طحين.

وقبل كل هذا وذاك انهزمت السيادة في دول بأنظمتها وحكوماتها، وهي مستمرة في مسلسل تطبيع العلاقات مع كيان لا يفعل شيئا على مدار السنتين سوى أن يقتل طفلا فجرا في خيام النازحين حرقا ثم يقتل آخرا تجويعا على أسرة أو ممرات ما تبقى من المستشفيات، ويظل أصحاب السياقات والتحليلات والتقديرات يطحنون الماء في دوامة الوضعية الديبلوماسية والسياسة الخارجية، وفي النهاية يستمر التطبيع.

ونظل نحن على هامش القرار وحافة التأثير، بأصوات لا تقدر إلا على الصراخ، وتبرعات نتمنى أن تصل ويفك عن أهل غزة الحصار، وأكف ترفع لمن لا حكم في هذه الأرض إلا بإذنه فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، ولأن التاريخ يسجل فبحساب النهايات ينتصر جوع غزة بكل ألمه وقساوته وتنهزم حياتنا ببطون ممتلئة وخزي يحني الجباه.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى