في انتظار حلول العام الهجري الجديد، حدث الهجرة النبوية؛ الطريق إلى الحرية
تحل علينا بعد يومين أو ثلاث أيام السنة الهجرية الجديدة 1443هـ، حيث يحتفي المسلمون في كافة أنحاء العالم بذكرى هجرته صلى الله عليه وسلم، التي غيرت العالم، وأعلت قيم التحرر من عبادة العباد والتوجه نحو عبادة رب العباد، وأخرجت الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه، إنها أعظم رحلة إلى الحرية في التاريخ.
تضييق المشركين
لم يكن الأمر يسيرا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرى أذى المشركين تزداد وتشتد عليه وعلى صحابته، خصوصا والأمر لم يعد مقتصرا على محاولات تشويه الدعوة الإسلامية، والتشكيك في صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام، بل وصل إلى الإذاية المادية، والتآمر على رميه صلى الله عليه وسلم بالفرث بين كتفيه وهو ساجد يصلي، ووضع الشوك في طريقه، والبصق في وجهه، والاتفاق على قتله.
أما صحابته رضوان الله عليهم، فقد سامهم الشرك من صنوف العذاب أشده، يلبسون بعضهم أدرع الحديد، ويصهرونهم في الشمس، ويخرجون بعضهم ظهيرة برمضاء مكة يقلبونهم ظهرا وبطنا، ويمنعون عن البعض الطعام والشراب، ويلصق ظهره الآخرين بالأرض على الحجارة المحماة… كل ذلك والصحابة؛ بلال وعمار وخباب.. صامدون حريصون على الدعوة، لا يرتدون عن دينهم إلا من أكره وقلبه ومطمئن بالإيمان، والنبي صلى الله عليه والسلام يشاهد ذلك ولا يملك إلا أن يوصي بالصبر والوعد بالجنة.
الهجرة الأولى
ازداد الأمر سوءا، وقريش قررت المزيد من التصعيد في وجه الدعوة المحمدية، واستقر قرارهم على حصار المسلمين؛ لا يبيعونهم ولا يبتاعون منهم، لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ثلاث سنين حتى اضطر عليه الصلاة والسلام وصحابته إلى أكل ورق الشجر.
في هذه الأثناء سيتطلع النبي صلى عليه وسلم إلى خارج مكة، عله يجد من يتقاسمه أشواق الحرية والانعتاق من ربقة الظلم والطغيان، وكان توجهيه الصحابة إلى عدل النجاشي: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد”، والتقط الصحابة الإشارة، وهاجروا سرا إلى الحبشة، السنة الخامسة للبعثة، وصدقت نبوءة النبي، إذ أحسن النجاشي جوار المسلمين، وأمن عبادتهم، رغم سعي المشركين لإفساد هذا الأمن.
وما لبث المسلمون بعد ثلاثة أشهر أن عادوا مكة، وهم يسمعون بإسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب، أغراهم ذلك بالعودة، لولا أن قريش زادت في الأذى وثارت ثائرتها وهي ترى رجالا من طينة حمزة وعمر تدخل في الإسلام، فجاء الأمر بالهجرة مرة أخرى إلى الحبشة.
الرحلة إلى الطائف
لقد توفي عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب؛ من كان يحوطه ويغضب له، وكانت له في قريش مكانة، وتوفيت الزوج خديجة رضي الله عنها في نفس العام (العاشر من البعثة)؛ من آوته وآمنت به منذ بداية البعثة، وترك ذلك أثرا عميقا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، حتى سمي العام عام الحزن، ونال طغاة قريش من النبي ما لم ينالوه في حياة عمه وزوجه، وبدأ النبي يبحث مرة أخرى عن مركز آمن لتحرر دعوة الإسلام، وكان التفكير في الطائف، إلا أن الأمل خاب، فقريش هذه المرة كانت يدها واصلة إلى سلطة الطائف، تؤلبها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقابلت دعوته بالتسفيه وسوء الأدب، يفضحون دعوته، ويغرون به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمونه بالحجارة.
قدر الله عز وجل لهذه المحن أن تحمل في طياتها منحا عظيمة، فرجلاه صلى الله عليه وسلم التي أدماهما السفهاء وهما عائدتان إلى مكة، ها هما تقبلان من الغلام عداس، والجن تعلن إسلامها بين يديه، وتصل المنح ذروتها مع رحلة الإسراء والمعراج، يفتح عليه الصلاة والسلام عينه على عالم أفسح وأرحب من عالم الدنيا، كل ذلك تكريما له، وتثبيتا وتسلية.
الطريق نحو الحرية
أخذ صمود المسلمين وصبره يؤتي أكله، ويظهر ثماره، فهاهي طلائع من الأنصار، تستجيب لدعوته صلى الله عليه وسلم، وتبايعه على السراء والضراء، وتفتح له باب المدينة، نصرة ومركزا تخرج منه الدعوة إلى العالمية والانتصار.
مضى الاتفاق، وشرع النبي في الإعداد سرا لحدث تاريخي سيغير العالم، ويعيده إلى فطرته، وسرى المسلمون فرادى وجماعات، ولم يكن من سلوى تسليهم عن فراق الأهل والأموال والوطن، إلى عزة الإسلام وانتصاره واستقراره.
وما إن وصل النبي المدينة المنورة، حتى استقبلته الأنصار بطلائع الفرحة والابتهاج، واتخذ النبي مسجدا، وآخى بين المسلمين والأنصار، واعتمد وثيقة المدينة، أول دستور يؤسس للتعايش ويكرس الحقوق والحريات. لتبدأ مرحلة أخرى للإسلام تعلن انتصار الإسلام وفشل الطغاة والظالمين.
التأريخ الهجري
في السنة 17 أو 18 للهجرة، سيفكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في اتخاذ تقويم للمسلمين، يؤرخون به تاريخهم، حيث جمع عمر آراء الصحابة، بين من أشار إلى التأريخ بمبعث النبي، ومن اختار مولده، ومن اختار وفاته عليه الصلاة والسلام، إلا أن الاستقرار كان على حدث الهجرة بما يرمز له من ظهور الإسلام وانطلاقه نحو الانعتاق والعالمية. واختار الصحابة بعد التداول أيضا شهر المحرم نزولا عند رأي عثمان بن عفان رضي الله الذي عدد مناقبه؛ كونه أول السنة عند العرب، وشهر الله الحرام، وأول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس إلى الحج. واعتمد التقويم الهجري منذئذ.