المولد النبوي… احتفالات وانحرافات
يشكل الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف فرصة لدى المغاربة للتعبير عن محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث تكتسي هذه المناسبة طابعا دينيا واجتماعيا مميزا، تتجدد فيه الروابط الاجتماعية، و تستعيد فيه مجالس الذكر حيويتها وندوات تدارس السيرة النبوية نشاطها، بما يتماشى مع تقاليد وقيم المغاربة. إلا أن طقوس الاحتفال بذكرى المولد النبوي، لا تخلوا من انحرافات مختلفة، خصوصا في بعض المواسم التي تعرف طقوس تتعارض في أحايين كثيرة مع الدين الإسلامي.
هذا الملف يبين مكانة الاحتفال بذكرى المولد النبوي عند المغاربة، ويرصد بعض مظاهر الانحراف التي تشوب هذه الاحتفالات، كما يضع هذه المظاهر الاحتفالية في ميزان الشرع.
فرحة الاحتفال
يخلد المغاربة سنويا ذكرى المولد النبوي الشريف، وتتنوع أشكال ووسائل الاحتفال بالمناسبة من جهة إلى أخرى، إذ يحرص سكان بعض المدن القرى على تبادل الزيارات وصلة الرحم بين الأهل والأصدقاء، كما أنها مناسبة لزرع الفرحة والبهجة في قلوب الأطفال وذلك بشراء ملابس جديدة لهم وإعداد حلويات بهذه المناسبة، وتحرص الأسر المغربية على أن تكون هذه الذكرى مناسبة فرح وسرور بالنسبة للكبار والصغار، فإلى جانب الزيارات العائلية يأخذ الآباء أبناءهم إلى المنتزهات للعب والنزهة.
وتعرف هذه المناسبة خصوصية كبيرة في المغرب، إذ مع دخول شهر ربيع الأول تتزين المساجد وتستعد لاستقبال هذه المناسبة إذ تفتح في وجه عموم المواطنين بتنظيم أمسيات في فن السماع والمديح وليالي قرآنية إلى جانب تقديم دروس ومحاضرات تستعرض مظاهر الكمال والجمال والجلال في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتستمر هذه الأنشطة إلى اليوم الثاني عشر من ربيع الأول.
وخلال نفس الفترة تقام احتفالات “الميلودية” في بعض البيوت التي لها ارتباط بأوساط العلم والتصوف، وذلك محبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فرصة لتجمع الناس، ويفتتح هذا الاحتفال بآيات من القرآن الكريم ثم ترديد الأمداح والأناشيد وتقديم شذرات من سيرة الرسول الكريم.
موكب الشموع
وتتفرد مدينة سلا باحتفال خاص يلقى إقبال واهتمام وطنيا كبيرا ويتعلق الامر بـ “موكب الشموع” وهو احتفال يعود إلى العهد السعدي بمدينة مراكش، ذلك ان السلطان السعدي أحمد المنصور كان قد حضر احتفالات العثمانيين بذكرى المولد النبوي وأعجب باستعراض الشموع الذي كان فقرة من فقرات حفل إحياء الذكرى باسطنبول، وبعد توليه عرض الدولة السعدية، قام أحمد المنصور بإعطاء اوامره لإقامة موكب الشموع على نفس الطريقة التي شاهدها في اسطنبول حيث تم تطريز وزخرفة الشموع من حجم كبير وأشكال هندسية مختلفة، وكان هذا الموكب يطوف مراكش إلى ان يصل إلى القصر الملكي، هذه العادة التي أصبحت من أبرز مظاهر الاحتفال بعيد المولد النبوي لم تقتصر على مراكش حيث وجود الخليفة، بل كان نفس الحفل يقام بمدينة فاس حيث خليفة السلطان وكذلك في بقية المدن المغربية مثل سلا وغيرها.
ويولي سكان مدينة سلا أهمية بالغة لهذا الموكب حيث تقوم فعاليات المجتمع المدني بتنظيف مسار الموكب ودعوة المشاركين وتهيئ أنشطة أخرى تقام على هامش الحفل الرئيس، ويرافق الموكب الشرفاء الحسونيون والأجواق الموسيقية التي تمكن حملة الشموع من أداء ما يسمى بـ “رقصة الشموع”، وينطلق الموكب من دار الصانع بباب سبتة ثم يقطع مجموعة حومات داخل المدينة القديمة ليصل إلى باب المريسة، حيث تقام على مقربة منها بساحة الشهداء المنصة الرسمية التي تشهد وجود حشود كبيرة من الزوار والمحبين ثم يستمر الموكب في طريقه إلى دار الشرفاء الحسونيين، حيث يختم الحفل وتنتقل الشموع إلى ضريح سيدي عبد الله بن حسون في انتظار السنة المقبلة.
انحرافات بأضرحة ومواسم
ترتبط الاحتفالات بذكرى المولد النبوي في المغرب بالزوايا والأضرحة المنتشرة في مختلف المدن، ففي بعض الزوايا تنظم في ليلة المولد النبوي حلقات ذكر وأمداح نبوية إلى جانب الصلاة وتلاوة حزب الراتب، ويحضر هذه المجالس المريدون والمواطنون وهي فرصة للقاء ولذكر خصال الرسول الكريم والتفكر في سيرته العطرة.
بالمقابل تعرف بعض الزوايا اختلالات في إحياء هذه الذكرى، منها ما يعرفه موسم “الشيخ الكامل” بمدينة مكناس، حيث تنشط مجموعات “عيساوة” و”لحمادشة” بعروض غريبة، يؤكل فيها اللحم النيء والأرانب، ويشرب الماء الحار المتبخر.
ويحج إلى مدينة مكناس خلال هذا الموسم السنوي أعداد كبيرة من المواطنين من مختلف المدن المغربية، لأغراض مختلفة، فمنهم من يعتبر زيارته لضريح الشيخ بمثابة “الحج” ويطلب من الشيخ ما يطلب من الله، إما المال أو الأولاد أو السعادة أو حتى دعوات لإيذاء الآخرين، حيث يعرف هذا الموسم وغيره من المواسم المشابهة انشارا كبيرا للدجل والشعوذة.
ويقيم الزائرون لضريح الشيخ بالمدينة أيام إضافية بعد تخليد يوم ذكرى المولد النبوي، حيث تعرف زوايا الضريح و الأزقة المجاورة لها خيام للزائرين الذين ينوون الإقامة هناك، معتقدين ان ما يرونه اعتكافا في ضريح الشيخ، واجب ديني مأجورون عليه.
وتتخلل الاحتفالات بالمولد النبوي في هذا الضريح عروض لعديد من الطوائف المعروفة بعيساوة وحمادشة، وهي عروض غريبة، حيث يقبل مريدو هذه الطوائف على أكل الزجاج أو شرب الماء شديد الحرارة، وغرس الأشواك في أجسامهم، كطرق لتعذيب النفس، معتقدين أن استحمامهم في عين ”مولاي علي” بعد ذلك ستقيهم من كل ما أذو به أنفسهم.
ومما أشتهر به هذا الموسم كذلك، ذبح الذبائح باسم الشيوخ لا باسم الله ، بطقوس معينة، تقام وسط الزاوية، و الزائرون متحلقون حولها، و أكل مريدي بعض الطوائف للحم هذه الذبائح نيئا.
ونظرا للازدحام الكبير الذي يعرفه الموسم والممارسات الغريبة التي يشهده، تكثف عناصر الأمن تواجدها في منافذ الدخول إلى الزاوية.
ويتحول موسم ضريح“علي بن حمدوش”خلال هذه المناسبة إلى ملتقى لاحتفالات تضم جزء مهما من الخرافات والانحرافات العقدية والسلوكية.
ويمر الاحتفال في الضريح عبر أربعة مراحل، أولاها أخذ الطبق إلى ضريح “أحمد الدغوغي”، الذي يبعد عن قبة “علي بن حمدوش” بحوالي خمس إلى ست كيلومترات، ثم تأتي مرحلة النزول إلى الحفرة، حيث توجد هناك “عيشة الحمدوشية”، لتقديم القرابين وإشعال الشموع، وبعدها يأتي دور زيارة قبة “علي بن حمدوش”، حيث توجد بداخلها ما يعتبره معتقدوها“محكمة للجن!”، وتأتي أخيرا مرحلة الاستحمام داخل بيوت تنبع منها عيون تسمى “عيون لالة عيشة مولات المرجة”، مرددين عبارة “شايلاه آسيدي علي بن حمدوش”، “شايلاه آلالة عيشة الحمدوشية”، لتمتد زيارة الضريح لسبعة أيام بعد المولد النبوي، وبالتحديد بعد انتهاء ما يسمونه“عمرة” ضريح الهادي بن عيسى بمكناس، حيث تتنقل الأفواج الزائرة للشيخ الكامل مباشرة بعد ذلك صوب علي بن حمدوش.
المودني يحذر من تكريس انحرافات الاحتفال بالمولد النبوي
قال محمد شاكر المودني، الدكتور في الدراسات الإسلامية أنه كلما حلت ذكرى المولد إلا وأثيرت هذه النقاشات حول مشروعية الاحتفال به، ويثار النقاش حول مشروعية بعض ما يقع في هذه المناسبة مما يخالف الإسلام في بعض الأحيان جملة وتفصيلا، ومن تم يرى المودني ضرورة لتجديد التوضيح حول هذا الموضوع، مع حلول هذه الذكرى من كل سنة، للتنبيه و التوجيه.
ويرى المودني، وهو عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن الإسلام له أصول مسلمة، ويجب أن يسلم بها المسلمون لأنها تنطلق من صلب العقيدة، وبالتالي فالاحتفال كشكل من أشكال التعبير عن الفرح لا إشكال فيه، وله تأصيله في سيرة النبي، إلا ما أنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يؤكد المودني في حديثه ليومية التجديد أنه لا يمكن أن نتحدث اليوم بهذا الإطلاق، أنه لا يوجد في الإسلام إلا عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى، لأنها أعياد تعبدية، أما سوى ذلك من الاحتفال فتسمى مجازا بالعيد، لأن سيدنا علي رضي الله عنه قال إن العيد هو اليوم الذي ينتصر فيه الإنسان على شهواته ورغباته، هو اليوم الذي يتوج فيه الإنسان مسار طاعاته ، ويعبر عن الفرح.
وقال المودني أنه لا يعتقد أن من ينكرون على الإطلاق الاحتفال بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم على صواب، ومن الدين في شيء، مذكرا أن المغاربة على الخصوص لهم في تقاليدهم تأصيلا للاحتفال في عدد من المناسبات، بمسميات عديدة، والتي لا يمكن أن تعتبر بدعا، بمنطق يكبت مظاهر الفرح و الابتهاج، ومؤكدا في الوقت نفسه أن التعبير عن الفرح ليس أمرا منكرا بالإطلاق ولكنه منكر بالجزء لا بالكل.
وفي تعليقه على بعض الممارسات التي تمتزج بطقوس الاحتفال بذكرى المولد النبوي، قال المودني في التصريح ذاته، أن ما يقع في مظاهر الاحتفال من مخالفات شرعية هو ما ينبغي إنكاره، أما الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فكثير من علماء المسلمين فسروا قول الله عز وجل “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ” أن “رحمته” يقصد بها الرسول الكريم، وبالتالي أجازوا الاحتفال بذكرى مولده،ولهم أدلة أخرى.
كما حذر المودني من المعاصي الأخرى التي ترافق هذه الطقوس، من قبيل الشذوذ الجنسي، والزنا، والسكر، والتعدي على أموال الناس بالباطل واستغلال جهل وسذاجة بعض الناس لتكريس هذه الممارسات.
واعتبر المودني أن الاحتفال بالذكرى، من المفترض أن يكون ضربا من ضروب التفكير في أحداث التاريخ، خصوصا وأن القرآن الكريم دعا لممارسة هذه العبادة، عبادة التفكر، وهذه الذكرى من أنسب الفرص لممارساتها، لأخذ الموعظة من الأمم السابقة، والمؤمن من يجعل من هذه الأحداث والذكريات لربط الماضي بالمستقبل مصداقا لقوله تعالى ”كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون” وآيات أخرى يتأكد معها المعنى نفسه، ليجدد التأكيد على أن اغتنام فرصة هذا الاحتفال لاستلهام العبر من الماضي واستشراف للمستقبل.
سارة طالبي