المغرب في محيطه.. امتدادات وتفاعلات: أعمال مهداة للأستاذ أحمد العماري
يأتي إصدار الكتاب الجماعي (المغرب في محيطه: امتدادات وتفاعلات) المهداة أعماله للدكتور أحمد العماري ، في سياق التقليد العلمي الذي دأب عليه الباحثون المغاربة، والمتمثل في استكتاب أقلام لتقديم كتب جماعية مهداة، تعبيرا عن التقدير الذي يحظى به مجموعة من الباحثين الرواد في مجال البحث العلمي عموما والتاريخي خصوصا، وتجسيدا للممارسة الأخلاقية التي تحتفي بمن أسهموا في عرض قضايا ومباحث متعددة من زوايا نظرهم ومن مستويات تقديرهم، هي بعد الانضباط لقواعد البحث العلمي التاريخي، إشكالات إغناء وإحياء معزز للدقة والعلمية.
وجاءت هذه المبادرة التي نسقها كل من الأستاذ عمر صوصي علوي والأستاذ محمد البركة والأستاذ عبد الفتاح عوني في 600 صفحة، لتحتفي بالأستاذ أحمد العماري، اعترافا بحضوره العلمي سواء على مستويات التدريس أو التأطير البيداغوجي أو البحث العلمي، رغبة في التعريف بمشروعه والتقدير لصاحبه، الذي قضى ردحا من الزمن بشعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس يتعهد أجيالا من الطلبة والباحثين، فهو نموذج للعالم العامل بتعبير علمائنا القدامى، أو للمثقف الحاضر بالتعبير الحديث، حيث يتضح من سيرته أنه عاصر أهم التحولات التي عرفتها الدولة والمجتمع المغربيين منذ نهاية الاحتلال الفرنسي حتى يومنا هذا، وتفاعل معها منخرطا أو دارسا أو منظرا، وهذا ما جعل إسهاماته في البحث التاريخي تستبطن روح الحاضر وتستشرف المستقبل، أي تنتقل من البحث التاريخي الحدثي إلى روح البحث التاريخي أي فلسفة التاريخ، حيث البحث في قوانين حركة التاريخ، كما هو واضح في كتابه “المواجهة والمراجعة: في سياق قانون الحركة التاريخية: بحث في نظرية التطور والقوة”، الذي بُني على أساس الصراع الحضاري، وكذلك كتابه “معالم في منهج التغيير” الذي يعرض فيه تصورا عن قوانين التغيير.
ذلك بأن الرؤية التي انطلق منها الأستاذ أحمد العماري -في تصوره لدراسة التاريخ وتدريسه- هي رؤية وحدوية معاكسة لما كرسه الاحتلال والاستعمار، حيث كانت محاضراته للطلبة في سلك الإجازة تعرض لمشكلات وقضايا العالم الإسلامي. أما أبحاثه الأكاديمية التي خصت تاريخ المغرب، وتأطيره لأبحاث طلبته في سلك الدراسات العليا والدكتوراه، فكانت بنفس وحدوي، شكل فيها المغرب مجرد نموذج متفاعل مع ذاته أولا ومع محيطه ثانيا، حيث ظل متمسكا بالقضايا الكبرى ذات البعد الجمعي، بما هي قضايا ممتدة عبر العالم العربي الإسلامي، ولازالت تفاعلاتها حاضرة في مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر، مثل قضايا الحدود والعلماء وغيرهما.
صحيح أن المسار العلمي والتكوين الفكري للأستاذ العماري، كان في سياق تميز على المستوى العالمي بالصراع بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، وكان هذا الصراع يجد صداه بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة في أبحاث النخب الفكرية في دولة الاستقلال بالعالم العربي، خاصة الأبحاث التي عنيت بمسألة التغيير، ومفاهيم النهضة والتقدم والديمقراطية والحداثة، وما يقابلها من مفاهيم التأخر والاستبداد والتقليد، فكان صوت الإيديولوجيا يعلو بين النخب الفكرية عامة وبين الباحثين في حقل التاريخ خاصة من جهة، لكنه أحدث حركية فكرية وتفاعلا معرفيا كان له الأثر البالغ في نضج الكتابة التاريخية.
وكتاب (المغرب في محيطه: امتدادات وتفاعلات) ثمرة وفاء متجذر ونتاج عطاء متنوع، شارك في تأليفه ثلة من الباحثين (28 باحث) منهم من تتلمذ على الأستاذ أحمد العماري مباشرة واستفاد من تأطيره في سلك الإجازة أو في سلكي الدراسات العليا والدكتوراه، ومنهم من حصّل الاستفادة من مجموع أعماله ودراساته وأبحاثه التاريخية، لكنهم مجموعون على رسالة الوفاء لمؤرخ يستحق الاحتفاء والتكريم كغيره، اعترافا وتقديرا لعطائه في مجال الدراسات التاريخية، تأليفا وتدريسا وتأطيرا. ولهذا فإن القارئ للكتاب سيجد نفسه أمام دراسات وأبحاث متنوعة، تعكس تعددا في الرؤى، وثراء في العرض، لكنها تنتظم ضمن البحث التاريخي وقضاياه، وتتنزل على تاريخ المغرب تفاعلا بين امتداداته الزمنية عبر العصور (العصر الوسيط والحديث والمعاصر)، وبين امتداداته المكانية في كل الاتجاهات (العالم الإسلامي، والعالم العربي، والمجال المتوسطي، والمجال الأوروبي) وآثارها على مجموع العلاقات.
إن البحث عن تلك الامتدادات والتفاعلات الواقعة بين المغرب ومحيطه، إنما غايتها القبض على مجموع القيم المنشدة إلى الهوية الوطنية مثل العلم والعدل والحق والحرية … أولا، ثم التعايش والاستيعاب والاستقرار والأمن …ثانيا، قيم عبرت عنها بصيغ مختلفة المقالات المدرجة في هذا الكتاب وهي تستخرجها من مادة مصدرية سمتها التنوع (كتب النوازل والرحلة والتاريخ والتصوف والتراجم …) والامتداد (بدءا من التراث المحلي إلى التراث الوطني والتراث الإنساني)، في تعبير يقر بالتعدد والاختلاف إغناء للبحث التاريخي.
وبناء على هذه المعاني انتظم الكتاب ضمن أربعة محاور، تتصدرها ترجمة مختصرة للأستاذ أحمد العماري، وهي محاور روعي في ترتيبها الكرونولوجي الترابط على مستوى الموضوع رغم الإقرار بصعوبة نظم قضاياها في محاور، لكن على سبيل التقريب والتغليب فقط، حيث جاء المحور الأول موسوما بـ(من تفاعلات المغرب في محيطه الإسلامي)، وجاء المحور الثاني معنونا بـ(الدولة والمجتمع في العصر العلوي: تفاعل وانفعال)، في حين جاء المحور الثالث في موضوع (قضايا الحدود والمجالات الحدودية: صور وعبر)، والمحور الرابع في قضية (من تفاعلات المغرب في محيطه الدولي).
هذا ويظل الكتاب مجرد شرارة محفزة للبحث في المشروع الفكري للأستاذ أحمد العماري تعريفا وقراءة ومناقشة، وبخاصة رؤيته ومنهجه في الكتابة التاريخية، بما يمثلانه من إضافة في سياق التطور الإبستيمي الذي عرفته المعرفة التاريخية في سياق عصره.