المسجد الأقصى في مواجهة محاولات الطمس الإعلامي – زياد ابحيص
بعد اقتحام إيتمار بن غفير أطلت علينا عدد من وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية بمصطلحين إشكاليين: استخدام مصطلح “مجمع الأقصى” في مكان المصطلح الأصيل: “المسجد الأقصى”، ووصف اقتحام بن جفير بأنه “زيارة” بعد أن كان يسمى “اقتحاماً”، وهذا ما ظهر في موقع بي بي سي عربي ودويتشة فيله عربية وسي أن أن العربية وجريدة الشرق الأوسط وغيرها من وسائل الإعلام، ولا بد من التوقف مطولاً مع المصطلح الأول ثم توضيح الثاني.
معنى مصطلح “مجمع الأقصى” وخطورته
وأصل المصطلح هو ترجمة عن العبرية حيث تسمي وسائل الإعلام العبرية المسجدَ الأقصى بتسمية “ميتخام هار هابيت” أي “مجمع جبل الهيكل”، ويقصد بهذه التسمية القول بأن الحضور الإسلامي في الأقصى هو مجرد مكونٍ من مكونات المجمع الديني اليهودي الأصل المسمى “جبل الهيكل”، وهو ما ينبئ بالرؤية الإحلالية الشاملة التي ينظر بها الصهاينة إلى المسجد الأقصى، فالجبل بأكمله يهودي ومخصص للهيكل، لكن هناك “مبنىً ما” في هذا المجمع مخصص المسلمين، فيما الحقيقة أن هذه التلة بكاملها هي المسجد الأقصى المبارك، بكل ما دارت عليه أسواره، وبمساحته البالغة 144 ألف مترٍ مربع، وهي الحقيقة الماثلة حتى اليوم والتي يعترف بها القانون الدولي.
نقلُ هذا المصطلح إلى الإنجليزية مع تحويره ليصبح “Al Aqsa Compound” هو انحيازٌ لرؤية الصهيونية الدينية إذ يؤكد فكرة المجمع المشترك، وينفي التكامل المعماري عن المسجد الأقصى وينفي عنه حصريته الإسلامية، فكأنه المجمع الذي يضم الأقصى، وبما أنه مجمع فهو يضم معالم أخرى بالضرورة. هذا يعني هنا أن المسجد الأقصى ليس هو كامل المساحة المسورة بمصلياتها المسقوفة وقبابها ومصاطبها، بل هو مبنى المصلى القبلي ذي الأروقة السبعة والقبة الرصاصية، أما بقية المساحة فهي “مقدس مشترك” وهذا بالضبط هو الطرح الذي تتبناه الحكومة الصهيونية، التي حاولت في مطلع تسعينات القرن الماضي تصنيف ساحة المسجد الأقصى كـ “ساحة عامة” تخضع لبلدية الاحتلال، وما تزال تجدد محاولاتها هذه كل فترة.
هذه المصطلحات ذاتها كان “اتفاق أبراهام” التطبيعي قد استخدمها حين نص على أن “كل المسلمين الذين يأتون بشكل سلمي يمكن أن يزوروا المسجد الأقصى ويصلوا فيه، أما بقية أماكن القدس الدينية فستبقى مفتوحة لجميع الديانات” وهو يبني على تفصيل سبق أن أوضحته “صفقة القرن” يميز بين “المسجد الأقصى” باعتباره المصلى ذا القبة الرصاصية” و”جبل الهيكل/حرم الشريف” باعتبارها كامل المساحة المسورة التي يراها مفتوحة لكل الديانات، واليوم حين يقال “مجمع الأقصى” فإن قائله يبني على هذه المقدمات ويتبناها.
ما سر الانتشار المفاجئ للمصطلح؟
ولعل المصدر الذي يمكن عزو هذا الانتشار الموحد للمصطلح بسببه هو نشره على وكالة رويترز، فتقريرها الذي غطى اقتحام بن جفير باللغة الإنجليزية سمى المسجد الأقصى “Al Aqsa Compound”، وبالبحث في منصة رويترز يتضح أن هذا المصطلح دخل إلى الاستخدام عندها في شهر 6-2021 في أثناء تغطيتها لمعركة سيف القدس وما بعدها، فهو تغيير جديد نسبياً في المصطلح حتى على مستوى الوكالة ذاتها، وهذا تغيير لا بد من التوقف معه ومع دوافعه لاحقاً، خصوصاً أنه يأتي استجابة لحملة شاملة أطلقها الكيان الصهيني لفرض مصطلحاته ورؤيته للصراع في مختلف المنصات الإعلامية والإلكترونية.
أسئلة مهمة تطرح هنا: هل هذا التغيير في المصطلح في المواقع العربية كان مجرد خطأ في الترجمة أو نقلٍ دون تحقيق؟ أم أنه تغيير مقصود ومدروس؟ وهل هي مصادفة أن يأتي هذا “الخطأ” في النقل متزامناً تماماً مع إعلان الحكومة الصهيونية المتطرفة الجديدة حربها المفتوحة على الأقصى باقتحام بن جفير له في أيامه الأولى في وزارته، وفي الوقت ذاته الذي أكد فيه بن جفير خلال اقتحامه أن “جبل الهيكل يجب أن يكون مفتوحاً لليهود والمسيحيين كما هو مفتوح للمسلمين”؟ ربما لا تبقي هذه المصادفات مساحة لحسن النية، فالتماثل في التوقيت والخطاب يؤكد أن هذا التغيير مدروس ومقصود، وهو ما يحتم تعريته ومواجهته.
اقتحام وليس زيارة
إشكالية أخرى طرحتها تسمية اقتحام بن غفير بـ”الزيارة” بعد أن أصبح وزيراً، وكأن دخوله إلى الأقصى عنوة ليس من حقه حين كان نائباً في الكنيست فحسب، لكنه أصبح “من حقه” حين أصبح وزيراً! والحقيقة أنه مقتحِمٌ في الحالتين من وجهة نظر حقوقية مطلقة، ومن وجهة نظر القانون الدولي كذلك، فالوضع القائم الذي تأسس عقب حرب القرم في 1856 ثم في اتفاقية برلين 1878 نص بكل وضوح على أن المسجد الأقصى شأن إسلامي خالص صلاةً وإدارة وإعماراً وحراسة، تختص به الدولة العثمانية ولا تتدخل فيه أي من القوى الكبرى، والوضع القائم يعني بعد الاحتلال أن المسجد الأقصى يجب أن يبقى على ما كان عليه في 4 حزيران 1967 قبل الحرب وقبل احتلاله، مقدّسٌ إسلامي خالص تديره هيئة إسلامية هي المسؤولة عن إعماره وصيانته وحراسته وكل شؤونه، وهي الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن، ودخول أي شخص من أي مستوىً إلى المسجد رغماً عن إرادة المسلمين في العالم فإنه اقتحامٌ لا تردد في إدانته، ويجري عليه الحق المطلق في مقاومته بكل شكلٍ ممكن.
مجابهة حرب المصطلح على المسجد الأقصى
لعل الواجب الأول الذي يفرضه تحدي حرب المصطلح ضد المسجد الأقصى هو تبني مسرد مصطلحاتٍ واضح يعبر عن وحدة المسجد وتكامله، فـ “المسجد الأقصى” يشير إلى كامل المساحة المسورة البالغة 144 ألف مترٍ مربع، وهو كأي مسجد يتكون من مساحة محددة متوجهة إلى القبلة لها محراب وفيها أروقة قبلية مسقوفة وصحن (أو ساحة) غير مسقوف للمسجد، لكن مساحة الأقصى الكبيرة -الذي كان لمعظم التاريخ الإسلامي أكبر مساجد الأرض- لم تسمح بسقفه بالكامل، ولا حتى بسقف واجهته الجنوبية بالكامل بسبب وقوفها على تسوية متوسط ارتفاعها ثمانية أمتار كثيراً ما أدت الزلازل إلى تدميرها، وهذا ما حصل مع المحاولة العباسية لسقف هذه الواجهة القبلية بأسرها.
اليوم لا بد من مصطلحاتٍ تحرر المسجد الأقصى من حالة التناثر والغموض، فهو المسجد الوحيد الذي يضم “مساجد” أخرى بسبب اتساعه وتعدد معالمه، لذا لا بد أن تسمى كل مصلياته المسقوفة الثمانية كمصليات وليس مساجد؛ المصلى القبلي والمصلى المرواني ومصلى الأقصى القديم ومصلى النساء ومصلى البراق ومصلى باب الرحمة وهكذا، وأن يشار إلى ساحته كساحة واحدة على اتساعها وليس باعتبارها “ساحات”، وأن ينتهي هذا التمييز الموهوم بين “الحرم” و”المسجد الأقصى” فالمسجد الأقصى ليس حرماً من الناحية الفقهية وعلى جميع المذاهب؛ إنما سُمي بذلك تكريماً من الناس له، ولا أصل بالتالي لهذا التفريق بين الأقصى و”الحرم”؛ بل إن المسجد الأقصى ما كان ينبغي له أن يكون حرماً وهو محل التدافع بين الحق والباطل، وقدسيته تتحقق رباطاً وجهاداً، فكيف له أن يكون حرماً آمناً وهذه وظيفته التاريخية؟