المساواة والعدل في الميراث
سبق وبيَّنا أن مطلب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث يأتي في مقدمة المطالب التي ترفعها عدد من الهيئات والمنظمات التي جعلت من المقررات والمقتضيات الدولية مرجعا لها في الترافع، وحاولت التأصيل لمطالبها انطلاقا من بعض الاجتهادات والتأويلات الشاردة علميا، والصادرة عن غير أهل صنعة الفقه وأصوله، والقرآن وتأويله، وأنها ساقت عددا من الحجج، أهمها أن الإسلام ساوى بين النساء والرجال في الولاية، وأن النساء شقائق الرجال، وأن من أهم مقاصد الشريعة تحقيق العدل والقسط ورفع الظلم وساقت لذلك عددا من النصوص لتأكيد موقفها وتأويلها لمفهوم المساواة الذي تدعو إليه[1]
فهل حقا دعا الإسلام إلى المساواة المطلقة بين الرجال والنساء؟ وهل التباين في الحقوق في أنصب الميراث دال على الظلم واختلال ميزان العدل بين الرجال والنساء؟ وكيف يمكن الجمع بين الدعوة إلى العدل والتمييز بين النساء والرجال في الإرث؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي تحرير مفهومي المساواة والعدل وتجلياتهما في نصوص الشرع وأحكامه، وعلاقة ذلك بمنظومة الإرث باعتباره منظومة من الأحكام المتكاملة في الإسلام.
1: في مفهوم المساواة والعدل والتباين القائم بينهما:
المساواة في أصلها مشابهة ومماثلة ومطابقة، فهي ممثالة بين الجميع في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون.. ولها أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وقانونية بل وجندرية كذلك، فالناس بمقتضاها يتمتعون بنفس المعاملة أمام القانون، وبنفس الحقوق الاقتصادية دون تمييز، وينعمون بالأمن الاقتصادي والمكانة الاجتماعية بالقدر نفسه، وهي تجاوز لاعتبار الذكورة والأنوثة في تقلد المهام والمهن ، وفي الوظائف والأدوار، وفي التمتع بالحقوق والواجبات.
والعدل هو القصد في الأمور وهو خلاف الجور، “وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم[2]، وهو استعمال الأمور في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وهو مقصد في التشريع وغاية في الأحكام، ومبدأ لسلامة العمران.
وبينه وبين المساواة عموم وخصوص، ففي كل عدلٍ جوهرُ وروح مقصد المساواة ، وليس في كل مساواة روح العدل وغايته، فإعطاء الحق للمثابر أكثر من حق المتهاون عدل في الظاهر ومساواة في الحقيقة والجوهر، لأن النتيجة رهينة المجهود والعمل، والمساواة في الجزاء بين العاملين دون أخذ اعتبار الجهد والعمل ظلم في حق المتميز وإجحاف في حقه، وهو مناف لحقيقة العدل وجوهره.
كما أن التسوية في الأجور مع اختلاف الوظائف والأدوار الاقتصادية والاجتماعية والمهنية مناف لحقيقة العدل، بل هو عين الظلم، ولن نجد عاقلا يدعو إلى المساواة في الأجور رغم اختلاف الوظائف في كل الأنظمة والبلدان وفي كل مراحل التاريخ التي عرفتها البشرية.
وبالعودة لمدونة الأسرة فإن المساواة المطلقة بين الرجال والنساء، مع العلم أنه يوجد مساواة بينهما في جوانب كثيرة من مثل الحق في حل ميثاق الزوجية، سن الأهلية… في بنود المدونة مخالف لحقيقة العدل المقصود من التشريع، ويعود بالضرر على المرأة ماديا أو معنويا، فلا يمكن قبول دعوة المساواة في المادة 26 التي تثبت حق الصداق للزوجة، أو المادة 29 التي تمنع على الزوج مطالبة زوجته بأي أثاث ــ أي بتجهيز البيت ــ مقابل ما قدمه من صداق، أو المادة 83 التي تلزم الزوج بإيداع مبلغ بكتابة الضبط بالمحكمة حال تعذر الإصلاح بين الزوجين، أو المادة 84 التي تحدد مستحقات الزوجة المطلقة وحقوقها أثناء العدة، أو المادة 85 التي تلزم الزوج بالنفقة على أبنائه بعد الطلاق، أو المادة 102 التي تعتبر الإخلال بالنفقة سببا داع لطلب الزوجة للتطليق، أو المادة 167 الخاصة بأجرة الحضانة ومصاريفها، أو المادة 194 التي تلزم الزوج بالنفقة على زوجته، أو المادة 196 التي تحدد حق المطلقة في النفقة عليها فترة العدة والحمل إلى أن تضع حملها، أو المادة 198 التي تلزم الأب دون الأم بالنفقة على أولاده إلا في حلة العجز الكلي أو الجزئي فتنتقل للام إن كانت موسرة وبمقدار ما عجز عنه الأب، فضلا عن أجرة رضاع الولد المحددة في المادة 201 فهي على الأب دون الأم.
فالقول بالمساواة في هذه المواد يجعل المرأة مطالبة بكل الحقوق المادية والمعنوية الواجبة على الزوج، وهو يتنافى مع طبيعة الأدوار والوظائف الاجتماعية والتربوية، والخصائص النفسية والبنيوية للزوجين، كما يتنافى مع سنة التكامل والزوجية.
2: في حقيقة المساواة بين الرجال والنساء في الإسلام:
إن طبيعة العلاقة القائمة بين الرجال والنساء في الإسلام علاقة تكامل لا تقابل، وتراحم إلى جانب التعاقد، فأصلهما من نفس واحدة، ويشكلان آية من آيات الله في الوجود، وهي آية الزوجية القائمة على افتقار كل مخلوق لمن يكمله، وحاجة كل زوج لزوجه، يجمعهما قيم التساكن والرحمة، قال تعالى ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.[3]
فليست العلاقة بينهما قائمة على النزاع والتباغض والمشاحة والتعاقد المادي الذي يعلي من قيم الفردانية على حساب قيم الرحمة والتساكن والاجتماع الأسري الذي يضمن مصالح الأفراد وحقوقهم في ظل مؤسسة الأسرة.
فبينهما مساواة مطلقة في أصل الخلق والوجود والانتماء، وفي الالتزامات الشرعية التكليفية لقوله صلى الله عليه وسلم ” النساء شقائق الرجال” [4]وفي العقوبات والحدود الزجرية، لقوله تعالى “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم”[5] وفي المسؤولية الإصلاحية، القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، ومدافعة الفساد، وفي النصرة والموالاة، قال تعالى ” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.[6]
فلا آية الموالاة بين المؤمنين، ولا حديث رسول الله ” النساء شقائق الرجال” كما استدلت تنسيقية المناصفة دالان على المساواة في الأحكام الجزئية الخاصة بطبيعة الجنسين وأدوارهم الوظيفية في المجتمع.بل هي وظائف وأدوار تؤطرها قيمة العدل وليست قيمة المساواة، وهي القيمة التي استدلت عليها النسيقية لإقرار مفهومها المنحرف لحقيقة المساواة بين الجنسين، وبينهما بون شاسع كم بينا ذلك في الفرقين بين المفهومين.
3: العدل في أنصبة الميراث وليس المساواة:
إن أحكام الميراث في الإسلام تشكل منظومة متكاملة، تراعى فيها عددا من الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، التي لا علاقة لها بمعياري الذكورة والأنوثة، معايير أجملها الدكتور محمد عمارة رحمه الله في مقدمته لكتاب ” ميراث المرأة وقضية المساواة” في ثلاثة وهي:
” 1: درجة القرابة بين الوارث والمورث، فكلما زادت الصلة زاد النصيب في الميراث ــ مثل جهة البنوة مقدمة على الأخوة والعمومة..
2: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال فالأجيال التي تستقبل الحياة عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين- مثل البنت ترث أكثر من الأب والزوج ـ
3: العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين، وهو معيار يوجب تفاوتا بين الذكر والأنثى..”[7]
فالنظر في حالات الإرث يثبت أن المرأة:
1: ترث في حالات أقل من الرجل، مثل إذا وجدت البنت مع إخوتها سواء كانوا أبناء أو إخوة أشقاء أو إخوة لأب لقوله تعالى ” يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ”[8]وهي لا تتعدى هذه الحالات،
2: وترث مثلها مثل الرجل في حالات منها:
- الكلالة وهي وجود الإخوة لأم مع الأخوات لأم ولا والد ولا ولد للهالك فيرث كل واحد منهما السدس منفردا أو يقتسمون الثلث قال تعالى” وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ”[9]
- وحالة الأم والأب فكلاهما يرث السدس مع وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى ” وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ ولد”[10].
3: وترث أكثر من الرجل في حالة وجود البنت مع الزوج والأب مثلا، فالزوج يرث الربع لوجود الفرع الوارث، البنت ترث النصف، والأب يرث ما تبقى بالتعصيب، فتكون البنت أفضل في قسمتهما من ذكرين.
4: ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل، مثل وجود أم وبنتان وأخت شقيقة وأخ لأب، فالأم ترث السدس، والبنتان ترثان الثلثين لتعددهما، والأخت الشقيقة ترث بالتعصيب مع البنات، والأخ الشقيق يحجب من الأخت الشقيقة وتمنعه من الميراث،
والأقسام الثلاثة التي ترث فيها المرأة مثل أو أكثر من الرجل أو تمنعه فيها من الميراث ” تشكل بالحساب الاحتمالي والعد الرياضي لمجموع حالاتها الإرثية ما يقرب نسبته من 84 % أما 16% المتبقية فهي من القسم الذي ترث فيه المرأة نصف الرجل” [11]
مع العلم أن المرأة ترث دائما بالفرض، فحقها مضمون في جميع الحالات، قد ينقص وقد يزداد تبعا لحالاتها مع الورثة، خلافا للرجل الذي يرث بالتعصيب، وهو مهدد بالحرمان حال استكمال واستنفاذ التركة.
إن حقيقة المساواة في الإرث التي تدعو إليها عدد من الفعاليات المدنية بداعي الاجتهاد انطلاقا من الأصول الشرعية لا تسعفه القراءة العلمية لحقيقة المفهومين، ولا طبعة العلاقة القائمة بنهما، ولا مجال توظيفهما، فالعدل غاية ومقصد يتحقق بالمساواة كما يتحقق التباين في الأدوار والحقوق والواجبات، والمساواة تتحقق بالعدل كما تتحقق بالتكامل في الوظائف والحقوق والواجبات.
د: محمد ابراهمي
عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح
***
[1]: يمكن العودة لمذكرة من أجل المساواة في الإرث الصادرة عن تنسيقية المناصفة ، مارية شرف، أسماء الوديع وآخرون ص:5/6.
[2]، ابن منظور لسان العرب، ج:11، ص: 430.
[3]: الروم الآية 21.
[4]: رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الرجل يجد البلة في منامه، حديث رقم 236.
[5]: سورة المائدة، الآية 38.
[6]: سورة التوبة الآية 71.
[7]: د: صلاح الدين سلطان، ميراث المرأة وقضية المساواة، تقديم الدكتور محمد عمارة، نهضة مصر للطباعة والنشر، ص: 4،
[8]: النساء الآية 7.
[9]: النساء الآية 12.
[10]: النساء الآية 10
[11]: الدكتور إسماعيل حفيان، مطلب المساواة بين الجنسين رؤية فقهية متجددة، ص: 7.