المسؤولية: ربط المناصب والوظائف بالمحاسبة والمساءلة
للأسماء والألقاب حمولة إيحائية ودلالية لها بالغ الأثر على عملية الاستيعاب الذهني الذي يحدد نوع التفاعلات النفسية المفضية إلى تجاوب توليفي تفاعلي بين خلاصات ذهنية وعقلية مبصومة بنفحة وجدانية مشاعرية، وملفوفة بلفافة الخلفيات الاعتقادية والروحية فيُترجم تجسيدا قوليا أو فعليا أو تجليات تعبيرية بالإيماء والإشارة
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ذا حس سيميائي بليغ، فقد اهتم بالدلالات والإيحاءات، وعمل على تغيير أسماء لما لها من تداعيات سلبية في العلاقة التفاعلية بين المسمى ومحيطه. فقد هم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بتسمية ابنه ” حَرْبا ” فغير النبي عليه الصلاة والسلام اسمه إلى” الحَسَن ” وغير اسم ” عاصية ” إلى” جميلة “، بل وحرص صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى في إسناد المهام ومنه ما ورد في معجم الطبراني عنْ يَعِيشَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ:دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناقَةٍ يَوْمًا، فَقَالَ: مَنْ يَحْلُبُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ مُرَّةُ، قَالَ: اقْعُدْ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: مُرَّةَ، قَالَ: اقْعُدْ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةُ، قَالَ: اقْعُدْ، ثُمَّ قَامَ يَعِيشُ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعِيشُ، قَالَ: احْلُبْهَا.
وعن بُرَيْدة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إذا أبردتُم إلىَّ بريدا فابعثوه حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاسمِ “أخرجه البزار في ” مسنده ” (المبعوثون إلى مشاييخ وأمراء وملوك أقوامهم)
وفي موضوعنا فالأسماء والألقاب للمناصب والوظائف غالبا ما تشير إلى الدور الوظيفي التقني. وملامح الصورة الذهنية المباشرة في المخيال هي الامتياز، والحظوة، والجاه، والنفوذ، والمكانة: مدير، أستاذ، رئيس مجلس إدارة، عون ، بناء، كهربائي، وزير … و لا يعطي كل هذا أي عمق دلالي على أنها تكاليف لا تشريف ، وأمانات وخزي وندامة يوم القيامة إلا من أداها بحقها. يعني لأنها لا توحي بأي ربط للمناصب والوظائف والمهام بإيحاءات المحاسبة والمساءلة سواء دنيويا أو أخرويا.
وحرصا على هذا الربط تحدث قوم بشكل هلامي تجريدي عن ” الضمير المهني” وأهميته دون الوقوف على كنهه، وأهم بواعثه، وآليات تنشئته، وتثبيته وسبل تقوية حضوره، واستمرار يقظته وتوهجه؟
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وبنفس الحس السيميائي الثاقب السالف ذكره حرص على ربط المهام والأعمال بالمساءلة والمحاسبة، بصور تعبيرية بالغة الدلالات،تستوعب أفهام الناس من أدناها إلى أعلاها ، ويتلاءم مع واقع البيئة القروية ويتعداها إلى واقع التمدن والتحضر، ويتمدد في زمن المستقبل مستوعبا كل مستحدث في المهام والوظائف. فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.”
وجاء في “معجم المعاني الجامع“
“رعَى ، يَرعَى ، ارْعَ ، رِعايةً ، فهو راعٍ ، والمفعول مَرعِيّ:
• رعَى الشَّخصُ عَهْدَه حفِظَه ، حافظ عليه وقام به حقَّ القيام :- رعى ولدَه ، – ، –
• رعَى الحفلَ : راقبه وأشرف عليه :- أقام حفلة برعاية فلان : بتمويله وإشرافه :- • رعَى الحاكمُ الرعيَّةَ : تولَّى أمرَهم ودبَّر شئونهم :- رعى اليتيم : كفَلَه
ـ راع : كل من ولي أمر قوم بالعناية والسياسة ، كالحاكم أو الكاهن أو الأسقف“
ف”كلكم” في الحديث تفيد العموم أي كل ذكر وأنثى مكلف ـ “رَاعٍ” بهذا اللفظ السلس يحدد النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة الأدوار للوظائف والمهام باعتبارها تكاليف وواجبات، التي يجب أن تستيقنها القلوب والعقول (خاصة في زمن تعمق فيه قوم في الإخلال بالواجبات والتخمة في المطالبة بالامتيازات)، أما الحقوق فهي رهينة بالتعاقد بين الأطراف وما جرت عليه عادات الأقوام وأعرافهم وفي شرعنا قاعدة تشريعية”العقد شريعة المتعاقدين“.
ولأنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم (يعبر بالألفاظ القليلة على معان كثيرة) فقد اختار لفظة “رَاعٍ” التي تدل على التعهد، والقيام بحق الرعية وتولي أمرها، ومراقبتها ، بالإشراف ، والتمويل ، وتدبير شؤونها ،وكفالتها بعناية وسياسة . والسياسة تدبير واعتناء متبصر وحكيم، وليس ما هو عالق بالأذهان اليوم((تْنَوْعير)).
ولفظة “رَاعٍ” يفهمها حق المعرفة القروي بسياسة فرسه وغنمه. في ترحاله عن الكلأ والماء ومن تعهدها في الفصل المطير، والسنين العجاف، وفي النهار وفي الليل من الذئاب واللصوص … ويفهمها المتعلم الواعي في الحضر من المعارف التي يتلقاها والمهارات التي يتدرب عليها ومن طباع الناس ، وسلوكات المجموعات وطباع الأفراد والجماعات في القسم ، والمصلحة ، والجمعية ،.والمقاهي والشوارع العامة ….
واستوعب عليه الصلاة والسلام كل الوظائف والمهام بضربه المثل من الإمام الحاكم إلى الأجير الخادم ومن مؤسسة أعلى هرم في السلطة إلى أدنى مؤسسة في المجتمع وهي الأسرة.
ويربط صلى الله عليه وسلم تحديد نوعية الوظائف والمهام بإيحاءات التكليف والواجبات، إلحاحا وتأكيدا، بالمحاسبة والمساءلة (…ومسؤول…) بكل أبعادها التربوية الشرعية والقانونية . مسؤلية أمام الله، ثم أمام من استرعاك في شيء واسند إليك مهمة: من الامام(الحاكم) أمام شعبه إلى الخادم أمام مستخدِمه، وما بينهما مما كان، وهو كائن، وما سيكون. وفي حديث مرفوع عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” إِنَّ اللَّهَ فَاتِحٌ عَلَيْكُمُ الْبِلادَ، فَلا يَتَأَمَّرُ رَجُلٌ عَلَى عَشَرَةٍ، فَإِنَّهُ مَنْ تَأَمَّرَ عَلَى عَشَرَةٍ، أَتَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَمِينُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ، أَطْلَقَهُ الْحَقُّ، أَوْ أَوْبَقَهُ ظُلْمُهُ، وَلا تَسْكُنِ الْكُفُور، فَإِنَّ سَاكِنَ الْكُفُورِ كَسَاكِنِ الْقُبُورِ.” يحدد صلى الله عليه وسلم برؤية استشرافية مستقبلية مبشرا ومنذرا : مبشرا بما يفتح الله على المسلمين من البلاد وما في ذلك من امتيازات. ومنذرا بالآثار الجانبية لذلك وهو “الترحال” و”النزوح” في اتجاه بعض الوظائف التي تغري امتيازاتُها ومغانُمها، وأهمها الإمارة. فيعمل على إيقاف السيل المتدفق من “الرحل والنازحين” من جميع الجهات والأبواب إلا باب القيام بحقها أي القيام بالواجب على أكمل وجه (اطلقه الحق). وذلك
بتصوير فني بليغ الدلالة عميق التأثير عن لحظة المحاسبة والمساءلة ( يوم القيامة أمام الاشهاد و بين يدي رب العباد، واليد مغلولة إلى العنق والظلم يورث صاحبه المهالك).
وإلى جانب المهرولين إلى الوظائف / الامتيازات، هناك المنسحبون فرارا أو احتجاجا عن هذا الاختلال الاجتماعي، أو إفراطا من التخوف من فتنة الخيرات الوافدة والظروف المستجدة ، فيردهم عليه صلاة ربي وسلامه ردا جميلا، إلى الحياة الطبيعية بأن ينهاهم على اتخاذ الأماكن النائية المعزولة (الكُفور) مساكن ومواطن.
والحديث لا يقدم سندا للمنسحبين ولا تبريرا للعاجزين، لأن من يَأْمُر ثلاثة إذا كانوا في سفر أن يُؤَمروا عليهم أحدَهم ، لا يذهب إلى خلاف ذلك في هذا الحديث، بل يقدم وصفة علاجية لمظاهر اجتماعية محددة بالغة التعقيد (التهافت على الامتيازات والانعزال المميت). ويبرز آخر الحديث بشاعة الانسحاب والانعزال.
فإذا كان الترحال والنزوح في اتجاه الوظائف المغرية يسبب اختلالات وصراعات وحتى فتنا ويجر سوء العواقب، فإن الانعزال والمنطق الهروبي يبيد مظاهر الحياة ويحنط كيانها (كساكن القبور). إنها السلبية التامة التي لا ترجع حقا، ولا تنصف مظلوما، ولا تغير منكرا، و لا تهدي ضالا، إنما تزرع الموت الزؤام في سنن الاجتماع البشري. إنها المُخالفة لطبائع الأشياء. إن الانعزال قبر الهاربين من مناط المسؤوليات وسنن الحياة الاجتماعية، يدفنون فيه ذواتهم قبل ذوات غيرهم.
وفي الحديث إضْفاءُ قيمةٍ وإعْلاءُ قَدْرٍ للاجتماع البشري رغم ما يعتريه من هزات. كيف لا والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحثنا ويدعونا إلى دور وجودي، وهو الانخراط التام و الكلي في دورة الحياة، بمجهود استثنائي متواصل إحيائي وإنمائي، حتى والكونُ تتبدل طبيعته وسننه في يوم ” تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى” (سورة الحج) فقال “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها”. (الحديث)، ألا فبعدا لعشاق الإماتة والتحنيط .
فما بين بداية الحديث ونهايته يعالج ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما بينا، ظواهر اجتماعية وسياسية في سوسيولوجيا الناس. ويؤسس للمقاربة الشمولية المؤسسة على وسطية ترد الشاردين والمتطرفين في الاتجاهين إلى الحالة الاعتيادية الطبيعية تحقق التوازن و”الانتخاب” الطبيعي لإدارة الأمور ، بأسلوب فني أخاذ يستوعبُ مراميه العامي الأمي إذا سمعه والمتعلم إذا تدارسه، والعالم يزيد من استنباط أسراره فصلى الله عليه عدد ما كان وعدد ما سيكون، والحمد لله رب العالمين
عزيز المردي