“المسألة اليهودية” في عصر الطوفان – نورالدين قربال
في بناء سردية المأزق الوجودي ل «الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”
هذا عنوان كتاب صدر مؤخرا للدكتور الحبيب الشوباني، منشورات الخيام. ط.2.نونبر2024. قد استهل هذا المؤلف بقولة مأخوذة من كتاب “العالم المعاصر والمسألة اليهودية” للفيلسوف الفرنسي اليهودي “إدغار موران” نقتبس منها ما يلي «إنه لمن المؤسف أن زرع إسرائيل في الأراضي الإسلامية قد خلق مأساة جديدة ذات أبعاد عالمية. دار النشرسوى. باريس. 2014.
بعد الإهداء والشكر، نطل على مقدمة الوزير الأسبق الأستاذ إسماعيل العلوي، تخصص الجغرافية البشرية، وزير سابق، وأمين عام سابق لحزب التقدم والاشتراكية. والذي نستنبط من هذه المقدمة النوعية قوله:” تجدر الإشارة إلى أن هذا الوهم مبني على ممهدات خرافية “ميثولوجية” تتلخص في إنشاء “مملكة إسرائيل”، تليها عودة المسيح التي تكلل هي أيضا بيوم الحساب، قبل أن ترتقي الإنسانية جمعاء إلى مرحلة تأسيس الجنة فوق الأرض”. معرجا على الواقع المعيش قائلا “هذا الواقع المؤلم القاتم الذي لا يعني الشعب الفلسطيني وحده، بل يعني البشرية جمعاء”.
بعد هذه المقدمة النوعية، نعرج على مقدمة المؤلف. الذي وظف فيها عبارة “الحوض الحضاري الإسلامي” بكل روافده العربية والفارسية والأمازيغية والطورانية والكردية والسنية والشيعية والنصرانية واليهودية، وغيرها من مكونات التنوع والتعدد العرقي والديني والطائفي. و”المسألة اليهودية”، “قضية فكرية وسياسية ودينية وتاريخية مزمنة ومعقدة”. الهدف من بسطها أمام الجميع باعتبارها “قضية تحرر إنساني من احتلال استيطاني عنصري سلط على شعب القضية وإقليمها منذ قرابة مائة عام”، من خلال مناهضة “مشروع احتلال سرطاني وفوضوي يهدد أمن ومصالح دول المنطقة وشعوبها. ويهدد السلم العالمي”. لقد تشكلت “المسألة اليهودية” عبر صيرورة تاريخية طويلة.
من خلال هذه التوطئة، أبرز المؤلف الدوافع المحفزة لتحرير مادة هذا الكتاب، والتي أجملها فيما يلي:
1/إشاعة الوعي العلمي بطبيعة “المسألة اليهودية.
2/كشف مأزق وهم الصلاحية الأبدية لسردية “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”.
3/الكشف الموضوعي عن الطاقة التحررية التي ينطوي عليها طوفان الأقصى.
4/المساهمة في بيان أن تجميع اليهود في فلسطين خطيئة استراتيجية ارتكبتها الحركة الصهيونية في حق يهود العالم عامة.
5/المساهمة في تمنيع الوعي الثقافي الرسمي والشعبي بشأن “مخاطر سرطان التطبيع”.
بعد هذه التوطئة شرع المؤلف في مقاربة الموضوع انطلاقا من العنوان أولا وما تناسلت منه من أسئلة متنوعة نوجزها في التيمات التالية:
1 – مفاهيم أساسية في وعي “المسألة اليهودية”
إن يهود أوربا باعتبارهم مجموعات دينية مصنفة عصية على الاندماج في المجتمعات المسيحية، الذين يجرمون اليهود تجريما أبديا بسبب اتهامهم بصلب المسيح. بذلك تدخل “المسألة اليهودية” في صراع الأفكار والإرادات. لذلك تم اضطهادهم وعزلهم في أحياء خاصة “الكيتو”. أما اليهود فيعتبرون المسيحيين من جنس الكويم/الأغيار.
اعتقاد توراتي استعلائي ينظر به “شعب الله المختار” لباقي الشعوب نظرة دونية. لكن مع عصر التنوير تحقق تحسن تدريجي للوضع الاجتماعي والقانوني والسياسي لليهود بناء على عناصر الاستيعاب والاندماج والانعتاق مع مراعاة مبادئ المساواة والمواطنة، لكن انبعثت “المسألة اليهودية” من جديد مع المد القومي، من تم طرح الفكر النازي تصفية الوجود اليهودي في أوربا. بينما رأت الحركة الصهيونية اللادينية أن الحل “للمسألة اليهودية” يقتضي إقامة “وطن قومي لليهود”. رغم المعارضة القوية لهذا الطرح نحو حركة “ناطوري كارتا” العبرية المناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني.
دعا آخرون إلى جعل فلسطين دولة ثنائية القومية، تتسع لجميع مواطنيها بغض النظر عن ديانتهم، ومنح العرب واليهود نفس الحقوق. لكن الذي طغى هو الحل الصهيوني “للمسألة اليهودية”. لكن طوفان الأقصى أنتج لدولة اليهود أوضاعا جديدة مشبعة بحالة لا يقين وجودي. إذن الحل الصهيوني يعيش مأزقا وجوديا. مع ثورة تواصلية رقمية جعلت العالم يعيد اكتشاف السردية الحقيقية للنشأة غير الطبيعية ل “إسرائيل”.
لقد تابع العالم بالصوت والصورة المشاهد الحية ل “هولوكوست فلسطيني”، وقد ميز المؤلف بين “الهولوكوست والمحرقة” يوضح الفيلسوف والسياسي الفرنسي روجيه جارودي أن مصطلح الهولوكوست للحديث عن ضحايا اليهود دون سواهم من قتلى حرب 1945. لأن معاناة اليهود وموتهم يكتسيان طابعا مقدسا والمحرقة بمعنى الكارثة.
إن طوفان الأقصى حدث استثنائي كبير في تداعياته على مآلات صراع الوجود في فلسطين المحتلة. مما ولد كونيا من تفاعلات ومواجهات وانزياحات ثقافية وشعورية ومواقفية على الصعيد العالمي، رفعت بمجموع حصائلها أسهم القضية الفلسطينية في بورصة الرأي العام العالمي إلى أعلى مستوى من التعاطف والتضامن السياسي والإنساني.
إذن الحل الصهيوني للمسألة اليهودية في مأزق وجودي. من خلال هدم كل من حصانة العصمة، والدفاع المشروع عن النفس، وحصانة الإفلات من العقاب. خاصة عندما أصابه طوفان الأقصى إصابات استراتيجية. لأن المشروع الصهيوني يعتمد على القوة وليس الحق الذي أحق أن يتبع. لقد تساقط جدار فلسطين أرض بلا شعب، وشعب بلا وطن. فالأرض التي جمع عليها اليهود أرض مغزوة وليست موعودة. كما تم الإجهاز على تهمة “معاداة السامية”.
2 – عولمة الهولوكوست الفلسطيني عن طريق الثورة الرقمية
لقد عرف العالم مباشرة معسكر الاعتقال والإبادة الجماعية في غزة عن طريق النازية الجديدة. وقد أكد هذا مجموعة من المفكرين اليهود العقلاء. من تم أصبح الحل الصهيوني للمسألة اليهودية عبئا ثقيلا على صانعيه وداعميه قبل خصومه. فطوفان الأقصى ضربة القرن في مقابل صفقة القرن. إذن العالم أمام خيارين: الازدهار والأمل أو الإرهاب واليأس. هذا نتيجة طبيعية لسيطرة الصهيونية الدينية على الحكم بإسرائيل.
يمكن استحضار بيان الناشطة الكندية “نعومي كلاين” التي عنونته ب “نحتاج الخروج من الصهيونية”. لأن نسخة التحرير حسب نفس المصدر فكرة مدنسة. لا نحتاج ولا نريد وثن الصهيونية. نريد التحرر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا. إنها دعوة من الذات اليهودية للخروج على الصهيونية ومنها.
3 – أسئلة لفهم تاريخ ومآلات المسألة اليهودية في عصر الطوفان.
يدخل هذا الاجتهاد في مقاربة فكرية. والتي نوجزها فيما يلي:
س1. ماهي التمفصلات الأساسية في الصيرورة التاريخية للمسألة اليهودية في عصر الطوفان؟
س2. ماهي أبرز معالم النصوص الأدبية والسياسية التي عكست صورة الإنسان اليهودي في الثقافة الغربية المسيحية؟
س3. ما هي الأصول والجذور الدينية التي استمد منها “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” مادة وجوده وحيويته الفكرية والسياسية؟
س4. كيف فكك مؤرخون ومفكرون يهود وغربيون معاصرون مادة هذه الأسس؟
س5. ما هي الخلاصات الأساسية التي جلاها طوفان الأقصى في مواجهته ل”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”؟
س6. هل يوجد حل حضاري إسلامي بديل للحل الصهيوني؟
4 – تمفصلات أساسية في صيرورة تاريخ الطبيعة المأسوية للمسألة اليهودية
تناول المؤلف هذا المحور من خلال المحاور التالية:
-من التجريم اللاهوتي إلى النبذ المجتمعي.
-من النبذ والاضطهاد إلى الاستيعاب والاندماج.
-من الانكفاء لحماية الوجود إلى الظهور وبناء سلطة النفوذ.
-من الجماعات المضطهدة إلى ميلاد الحركة المضطهدة.
-من سراب الاندماج إلى وطن الصعود التوراتي.
5 – المسألة اليهودية والنصوص الثقافية والسياسية
عالج المؤلف هذا المحور باعتماده على رواية تاجر البندقية لشكسبير، الكائن الشرير، وملتمس الأب غريغوار، البرلمان الثورة الفرنسية، الكائن المضطهد، ومسرحية يهودي مالطة، لمارلو، الكائن مأسوي الحياة والمصير، ومنظور الفيلسوف مونتسكيو، الكائن المفتقر بشكل مزمن للتعاطف، ومنظور الأديب فولتير، الكائن ضحية ثالوث الجشع، والخرافة والكراهية.
6 – الأصول الدينية والسياسية للحل الصهيوني للمسألة اليهودية.
انطلق البحث من خلال التركيز “الدعوة المسيحية” للألماني “مارتن لوثر” إلى دولة اليهود، للمنساوي ثيودور هرتزل. لقد خرجت الدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وتجميعهم في وطن قومي هناك، من ألمانيا في القرن 16. كما تحرم الأسقف الألماني وليم هنري هشلر. بكتابه “عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات”. ركز في محور ثان على الوعد السياسي للبريطاني كرومويل. إلى الحركة الصهيونية للنمساوي ثيودورهرتزل وقد نادى في سنة 1799 نابليون بونابرت على أن اليهود ورثة شرعيين لأرض إسرائيل معتمدين على فرية تاريخية مفادها أن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا وطن”. العلة في هذا القرار التخلص من اليهود الأوربيين. مع تسخير اليهود كرأس حربة في المنطقة. وخلص أن الثالوث المؤسس للحل الصهيوني: مصطلح بيرنباوم، كراسة بينسكير، كتاب هرتزل.
7 – تفكيك وإعادة تركيب الأساطير المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية
برز التوجه النقدي للمؤرخ “إيلان بابي”، كموقف فكري رافض لتزييف حقائق تاريخ نشأة دولة ‘إسرائيل’. معتمدا على إجمال اليقينيات العشر التي رصدها المؤلف في ص.133 وص134. وقد صدر كتابه سنة 2017. بعنوان “الأساطير العشر حول إسرائيل”. توظف الصهيونية هذه الأساطير من أجل تبرير السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والعدوانية في حق الفلسطينيين وتبرير التدخل الغربي في القضية. وفي هذا المقام ناقش المؤلف الأساطير المعتمدة من داخل الذات اليهودية أولا ثم من قبل المفكرين الموضوعيين.
في المحور الثامن ركز المؤلف على خلاصات أساسية في بناء سردية المأزق الوجودي ل”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”. ويمكن إيجازها فيما يلي:
- حقب ومآزق الحلول الأوربية للمسألة اليهودية.
- تفكيك الطوفان للعلاقة بين الصهيونية واليهودية.
- تفكيك الطوفان للعلاقة بين الجماعات اليهودية والشعب اليهودي.
- تفكيك طوفان الأقصى للعلاقة بين شعب يهودي بلا أرض وأرض الميعاد.
- تفكيك طوفان الأقصى للعلاقة بين الدولة اليهودية الآمنة وتفوق قوة الردع.
- تفكيك طوفان الأقصى للعلاقة بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية.
- تفكيك طوفان الأقصى للعلاقة بين دولة الاحتلال والفصل العنصري ودولة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- تفكيك طوفان الأقصى العلاقة بين خداع التفاوض الدبلوماسي طويل النفس وواقع سياسات الاستيطان الإحلالي الشامل.
- تفكيك الطوفان للعلاقة بين وعود السلم والازدهار الإقليمي وتكريس واقع الاحتلال بالإبادة والتطبيع.
- تفكيك الطوفان للعلاقة بين مفهومي التحالف الصهيوني الغربي والحضارة اليهودية المسيحية.
من خلال هذه المحاور يبدو أن طوفان الأقصى هو التيمة المركزية التي كانت سببا في إسقاط الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وبذلك بدأت منظومة بناء سردية المأزق الوجودي لهذا الحل الذي عمر أكثر من مئة سنة.
ملاحظة أخيرة أن المؤلف لم يختم بخاتمة معهودة بل عنونها بعنوان على شكل سؤال وهو مربط الفرس: بعد الفشل التاريخي المأسوي للحل الصهيوني، هل يوجد حل حضاري إسلامي ل”المسألة اليهودية”؟
إجابة على هذا السؤال الدقيق والصعب الممتنع، قارب المؤلف الموضوع انطلاقا من العناوين الكبرى التالية:
- المسألة اليهودية من منظور التفسير بنموذج الأحواض الحضارية.
- المسألة اليهودية من منظور عقلاء المفكرين والفلاسفة اليهود.
- أسس الحل الحضاري الإسلامي.
- خصائص الحل الحضاري الإسلامي.
- آليات الحل الحضاري الإسلامي.
بعد هذه الرحلة العلمية القيمة ختم المؤلف بملحق يؤرخ للتحقيب الزمني لأهم المعالم التاريخية والفكرية والسياسية للصيرورة المأساوية ل”المسألة اليهودية”. والتي امتدت من 2000سنة قبل الميلاد إلى سنة 2023مابعد طوفان الأقصى.
مما يثير الانتباه أن المؤلف اعتمد على 40 مؤلفا باللغة العربية من بينها 15 مؤلفا مترجمة. أما المراجع الأجنبية فعددها 21 مرجعا. والإشارة الأخيرة أن أغلب مراجع المؤلف إنتاجات ليهود سخروا وقتهم لمواجهة المد الصهيوني. وعلى رأسهم إدغار موران “فيلسوف فرنسي يهودي” الذي يقول في كتابه “العالم المعاصر والمسألة اليهودية”: إنه لمن المؤسف أن زرع إسرائيل في الأراضي الإسلامية قد خلق مأساة جديدة ذات أبعاد عالمية”. فشكرا جزيلا للمؤلف على هذا الإنتاج الجدير بالقراءة نظرا للمجهود الذي بذل فيه وللمقاربة الجديدة التي تناول بها موضوعا عمر 20 قرنا من التاريخ البشري و79 سنة للاحتلال الصهيوني.