الكلمة والصورة.. سلطان لا يندثر عبر الزمن ومسؤولية ممتدة إلى الأبد – سحر الخطيب

هل رأيتموهم؟ أولئك الذين يحملون أقلامهم وكاميراتهم كالجنود في ساحة المعركة.. لكنّ سلاحهم هو كلمة الحقّ، وعدّتهم هي صدق الصورة. في غزّة.. هناك صحفيون لا يكتبون بأحبارٍ سوداء، بل بدمائهم الحمراء. هناك حيث تُسكت الأصوات بالقنابل، وتُدفن الحقائق تحت الركام.
إنهم عيون غزّة التي لا تُغمض، هم لم يعودوا مجرد مراسلين ينقلون الخبر.. هم أصبحوا شهود عيان على الموت: يكتبون عن الجوع.. وهم جياع.، يصورون الدمار.. وبيوتهم تتداعى فوق رؤوسهم، يروون قصص الأرامل.. وقد أصبحوا هم أنفسهم أرامل أو أيتام. لكنهم رغم ذلك.. لا يزالون يصرخون بالحقيقة.. كأنهم ينزفون بصرخة أخيرة قبل الصمت.
بلغ عدد الصحفيين الشهداء ما يقارب 274 صحفيا و صحفية أو يزيد حسب الإحصائيات المتداولة، في محاولة من الاحتلال لتغييب الرواية الفلسطينية وطمس الحقيقة.
فقد اغتال جيش الاحتلال مراسلي الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، والمصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة، والصحفي محمد الخالدي، في غارة استهدفت خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء بمدينة غزة، في وقت متأخر من يوم الأحد 24 غشت 2025. وبعد هذا الاستهداف المباشر، أطلق المحتل المختل غارة أخرى يوم الاثنين 25 غشت 2025 على مجمع ناصر الطبي حيث تم التوثيق المباشر لاغتيال عدد من الصحفيين الآخرين. أسفر القصف عن استشهاد كل من حسام المصري المتعاقد مع وكالة رويترز، ومريم أبو دقة المتعاونة مع وكالة أسوشيتد برس، ومعاذ أبو طه المتعاون مع شبكة “إن بي سي” الأميركية، وأحمد أبو عزيز الذي يعمل مع شبكة قدس. و قبلهم و بعدهم، غيب العديد من حملة الكلمة و الصورة. جرم لم ير مثله في أي زمان سبق أو أي مكان ﹸسرق.
فلماذا تُستهدَف الكلمة و الصورة؟ لأنّ الكلمة و الصورة أقسى من القنبلة.لأنّ الحقّ حين يُنقل للعالم. يهتزّ له عرش الظلم.
فيسكتونهم: إما بالقتل.. فتُراق دماؤهم على عدسة الكاميرا. أو بتدمير مكاتبهم، فتُدفن الأخبار تحت الأنقاض، أو بتهجير عائلاتهم ليفقدوا آخر سببٍ يجعلهم يخشون الموت. لكنّ الكلمة لا تموت: قد يُقتل الإعلامي.. لكنّ الشهادات التي كتبها ستملأ الكون ضجيجا. قد تُدمّر الكاميرات. لكنّ المقطع المصوّر سيظلّ يشهد على الجريمة.
لقد حوّلوا غزّة إلى مدرسةٍ للشهادة: كل صحفيّ يُستشهد.. يترك وراءه جيلاً جديداً يمسك القلم والكاميرا، كل صورةٍ تُحذف.. تولد منها ألف صورة. إن التاريخ، اليوم، يكتب بدماء الشهداء من الإعلاميين، بأقلامهم التي لم تنكسر، بكاميراتهم التي وثّقت الجريمة.
فسيظلّون شهداء الكلمة وشهداء الصورة. وشهداء أنَّ الحقَّ لا يموت.
هل أدركنا يوماً قوة الكلمة؟ هل أدركنا أن حروفاً صغيرة قد تُسقط عروشاً، وتُقيم أمماً، وتُغيّر مصائر؟
في رحلة عبر الزمن.. نرى كيف كانت الكلمة هي البطل الخفي في معارك الحق والعدل.
منذ البداية.. كان للكلمة سلطان، مرت القرون.. وجاء رجال لم تكن لديهم سيوف ولا جيوش.. كان سلاحهم الحبر والورق.
وفي عصرنا.. لم تختلف المعركة.. فقط تغيرت الأسلحة.
تخيل شاباً يكتب من غرفته الصغيرة.. كلمة حق على فيسبوك أو تويتر.. قد تصل إلى الملايين.. قد تُحرك ضمير أمة.. قد تنصر مظلوماً. كم من طفل جائع نُصر بفضل كلمة؟ كم من مظلوم أُعيد حقه بسبب مقال؟ كم من فساد انكشف بسبب تحقيق؟
إن التاريخ لم يُسطر بمداد من ذهب، بل بمداد من دماء الشهداء وحبر الكلمة الصادقة. لقد كانت الكلمة دوماً سلطاناً يُخضع الجبابرة، ويُحيي الضمائر، ويُقيم العدل في الأرض. هي الجندي الذي لا يتراجع، والسيف الذي لا ينثني، والنور الذي لا ينطفئ.
لقد حمل الأنبياء أعظم كلمة”:كلمة التوحيد.”فقال نوحٌ لقومه} اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ { (سورة الأعراف، الآية 59) فكانت طوفاناً يغسل الشرك من الأرض. كم قلب غيّرت؟ كم نفس هزّت؟ لقد كانت كلمته طوفاناً من النور يقاوم ظلمات الجهل.
وألقى إبراهيم عليه السلام في وجه الظالم}: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ { (الأنبياء: 63) فحطّم الأصنام بكلمة. كلمة واحدة جعلت الطغاة يحاكمون أنفسهم بألسنتهم!
ووقف موسى أمام فرعون}: قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ {(الأعراف: 105) فكانت الكلمة أعظم من كل سحر. تصوّر هذه الكلمات مشهدًا إنسانيًا عميقًا، حيث يقف نبيٌّ حكيمٌ أمام قومه، ليس بيده سلطة إلا سلطة الحقيقة، ولا قوة إلا قوة الإيمان. يناديهم بكلمات هي خلاصة الحكمة: “اعبدوا الله” فهو المصدر الوحيد للعبادة، والملجأ الحقيقي للروح. “ما لكم من إله غيره “فهي تحرير للإنسان من كل الأوهام والأصنام التي يستعبد نفسه لها.
إنها دعوة إلى الحرية الحقيقية: حرية العقل من الخرافة، وحرية القلب من الخوف من غير الله، وحرية الإرادة من عبودية الهوى. هي رسالة كل نبي: أن يعود الإنسان إلى فطرته النقية، فيعبد من يستحق العبادة وحده، ويُخلص لمن له الملك كله.
فهي ليست مجرد قول تاريخي، بل هي صيحة حق تتردد عبر الزمان، تذكر الإنسان بأصل وجوده وغاية حياته.
و كما كان سلطان الوحي ينبع من كلمة الأنبياءـ يحرر الإنسان من عبادة ما دون الله، كان سلطان الحكمة ينبثق من كلمات العلماء و كان سلطان البيان ينبعث من كلمات الأدباء يحرران الأرواح من أغلال اليأس. كم من طاغية خاف من كلمة فسجن كاتباً، أو أحرق كتاباً، أو قتل شاعراً! ولكن الكلمة الحق كالنور: كلما حاولوا إخماده، ازداد توهجاً.
فإن للكلمة سلطان..
فمن جعلها لله — دام سلطانه.
ومن جعلها لهواه — كانت وبالاً عليه.
بكل يقين، إن الحديث عن سلطان الكلمة في القرآن الكريم هو حديث عن أعظم نصٍّ شهدته الأرض، حيث تتحول الحروف إلى كيان حيّ، والكلمات إلى قوانين كونية، والآيات إلى مصابيحَ تهدي البشرية. إنه سلطانٌ يستمدّ قوته من كونه صادرًا عن ملكوت العظمة الإلهية، فلا عجب أن تكون كل كلمة فيه معجزة، وكل حرفٍ فيه حكمة. إن الكلمة في القرآن ليست وعاءً للمعنى فحسب، بل هي طاقة نورانية تهزُّ الوجدان، وتُحيي القلوب، وتُقنع العقول. وسلطانها يتجلى في:
سُلطان الإعجاز: فالكلمة القرآنية تقف شامخةً أمام فطاحل البلاغة، تتحداهم أن يأتوا بمثلها، وهي تحدٍّ أبديٌّ يعلن أن هذا الكلام ليس من صنع بشر، بل هو كلام رب العالمين. إنها كلمات لا تُقلَّد ولا تُجارى، لأنها نُسجت من نور الوحي، وصيغت بلغة الخلود. بعض الكلمات في القرآن تحمل عرش سلطانها، فتتوج بها المعاني وتنزل منها منزلة القلب من الجسد:
كلمة “اقْرَأْ”: هي الشرارة الأولى التي أنارت ظلام الجهل، وأطلقت العقل من أساره. إنها سلطان التحرير والتعلم، التي غيرت مجرى التاريخ برمته. كلمة واحدة كانت بداية حضارة، ومنارة علم.
كلمة “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”: هي قمة التسليم، ونقطة الالتقاء بين الأرض والسماء. فيها ينكسر العبد بين يدي ربه، معترفًا بالعبودية طالبًا المعونة. إنها سلطان التوحيد الخالص، الذي تهتز له أركان النفس، وتستقيم به الحياة.
كلمة “كُنْ”: هي أمر الخلق والإيجاد، الكلمة التي لا تحتاج إلى وسيط ولا آلية. إنها سلطان القدرة المطلقة، التي إن نطقت بالكون كان. هي البرهان الساطع على أن مشيئة الله فوق كل سبب.
كلمة “حَقٌّ”:هي التوكيد الإلهي على صدق الوعد والوعيد. إنها سلطان اليقين الذي يمحو الظنون، ويطمئن قلوب المؤمنين، ويقطع الطريق على كل شكٍ أو ارتياب.
كلمة “قُلْ”: هي جسر البلاغ بين السماء والأرض. أمرٌ للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الرسالة بكل وضوح وصراحة. إنها سلطان التبليغ والأمر بالدعوة، التي تكررت لترسخ مبدأ “بلّغوا عني ولو آية”.
سلطان الكلمة في القرآن هو سلطان فريد، لا يشبهه سلطان: فهو سلطان روحي يغوص في أعماق النفس فيطهرها. وهو سلطان تشريعي يبني الأمم ويقيم العدل. وهو سلطان بلاغي يعجز فحول الشعراء عن مجاراته. وهو سلطان كوني تخرّ له السماوات والأرض ساجدتين. إنه الكلام الذي لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله. فكل حرف فيه بركة، وكل كلمة فيه هداية، وكل آية فيه شفاء. إنه سلطان الحق، والنور، والرحمة، الذي جعله الله هدىً للعالمين، وصراطًا مستقيمًا.
و من سلطان الكلم القرآني، نعرج على سلطان الكلم النبوي، فإن كلمات النبي المصطفى ﷺ لم تكن ألفاظاً تقال، بل كانت روحاً تُنفخ، وبنياناً يُرفع، وأمةً تُصنع. لقد تجلى فيها سلطان الكلمة في أبهى صوره، فغيرت مجرى التاريخ، وقلبت الموازين، ورفعت راية الحق إلى عنان السماء.
“قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”: بهذه الكلمات الواضحة بدأ رسول الله ﷺ دعوته. كلماتٌ بسيطة في ألفاظها، عميقة في معناها، هزت عروش الجاهلية، وقلبت موازين القوى، ووضعت أساساً جديداً للحياة.. أساس التوحيد.
لقد غزا ﷺ القلوب بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالأسلحة، لأن الكلمة الحق، الكلمة البذرة قد تُخضع الجبابرة، وتلين القلوب القاسية، وتفتح أبواباً لا تفتحها السيوف.
الكلمة السلاح.. حين تكون الكلمة أبلغ من ألف سيف. أبلغ دليل ما ورد في الحديبية من كلام النبي صلى الله عليه وسلم و هو مشهور ومعروف، ومنه قوله لكبير قريش سهيل بن عمرو عند كتابة الصحيفة”: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله”، فاعترض سهيل قائلاً: “لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “امحه”، فقال علي: “ما أنا بالذي أمحوه”. فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة وكتب محمد بن عبد الله ” . لقد كانت كلمته سلاماً وعهداً، وكانت فتحاً مبيناً، لأن الكلمة الصادقة قد تمنحك ما لا تمنحك إياه الحرب.
في فتح مكة، قال ﷺ: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. بهذه الكلمات حوّل أعداء الأمس إلى إخوة اليوم، لأن الكلمة العظيمة تُذيب الأحقاد، وتصنع من الأعداء أحبة. الكلمة النبوية دواء، لأن الكلمة الطيبة قد تكون جسراً من المحبة بين القلوب. كلماتٌ توازن بين الحقوق، وتصحح المسار، وترسم طريق الاعتدال.
“إنما الأعمال بالنيات”، بهذه الكلمات وضع ﷺ حجر الأساس لكل عمل، وجعل النية شرطاً لقبولها، فبناها قاعدةً عظيمةً يقوم عليها الدين. “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”: بهذه الكلمة بنى مجتمعاً متكافلاً، يرحم القوي فيه الضعيف، ويحس الغني فيه بالفقير، وتصبح الأمة جسداً واحداً. لقد كانت كلمات النبي ﷺ تخرج من قلب مليء بالإيمان، فتدخل إلى قلوب الصحابة فتُحدث فيها التحول العظيم. لم تكن كلمات جوفاء، بل كانت نوراً يهدي، وشفاءً يداوي، وسلاحاً ينتصر به الحق، وبنياناً تُقام عليه الأمة.
فطوبى لمن تعلم من كلماته، واقتدى بهديه، وجعل كلماته نوراً يمشي به بين الناس. فليكن لساننا ترجماناً عن قلبنا، وكلماتنا صدى لكلمات نبينا ﷺ.
فإن انتقلنا بـ “سلطان الكلمة” من عالم الوحي المعجز إلى عالم الإعلام المكتسب، فإننا ننتقل من قدسية النص الإلهي إلى مسؤولية الإنسان في تبليغ الحق والخير. فليست الكلمة هنا معجزة، بل هي أمانة.
للإعلام سلطة خفية ولكنها عميقة؛ فهي التي تُشكّل وعي الناس وتُحدّد ما يفكرون فيه : فهي تضع للأمة جدول أولوياتها فتختار ما هو مهم وما هو هامشي. وهي “تصوغ العقول “بلغة العناوين والصور والتقارير، تُوجّه المشاعر وتُحرّك الرأي العام. وهي “تبني الأبطال” بكلمة، و “تهدم السمعة” بكلمة أخرى.
يتلخص الوجه المظلم لسلطان الكلمة في التعتيم المتعمّد. فلإخفاء كلمة الحق سلطة! إنها سلطة الخائفين من وهج الحقيقة، سلطة الذين يرفعون جدراناً من الأكاذيب لسدّ نوافذ الضمير. إن إخفاء الحقيقة أو تغييب قضيةٍ هو استخدام سلبي للكلمة، بل هو خيانةٌ لنفسها. إنه اغتيالٌ للذاكرة، وإسكاتٌ لأصوات الشهداء والأمل. وأبرز دليلٍ فاضحٍ على هذه الخيانة هو رواية الدعاية الصهيونية، التي حاكت من الخوف والأساطير ستاراً تُخفي خلفه وجعَ شعبٍ بكامله. لقد سخّروا فنَّ السرد لتحويل السجّان إلى ضحية، والمغتصب إلى مخلِّص. حولوا دموع الأمهات الثكالى – اللواتي تشبثن بتراب بيوتهنّ المدمرة – إلى مجرد “أضرار جانبية” في سردية التقدم والازدهار. لقد غيّبوا قضية الإنسان في فلسطين، وحاولوا طمس هويته، وتشويه صموده، وتحويل وجوده إلى مجرد “مشكلة” يجب حلها، لا إنسانٍ له تاريخ وحقوق وأحلام.
لكن الكلمة الحقيقية، كلمة الحق، لا تموت. هي كالنبتة الشوكية التي تشقّ صخور الظلم لتعلن عن وجودها. هي ذاكرة الزيتون التي تحفر في الأرض أعمق من جذور الكراهية.
فليكن صوتنا، إذاً، هو الصدى الأمين لهذه الكلمة المختطفة. ليس بصيغة الصراخ المجرّد، بل برسالة الإنسانية التي تذكر العالم: أن من يسلب الإنسان بيته وأرضه وكرامته، يسلب الإنسانيةَ كلَّها جزءاً من روحها. وكما أن لإخفاء الحق سلطة، فإن لإعطائه صوتًا قوةً هادرة. قوةٌ تتمثل في منح الجرح كلمته، وإعادة الذاكرة لمن سُلبوا تاريخهم، وإعادة الاسم لمن أُريد لهم أن يكونوا أرقامًا في سجلات النسيان.
هنا، تتحول الكلمة إلى ملجأ للضعفاء: تُنصت لآهات اللاجئ على الحدود، وتحتضن حكاية المظلوم تحت وطأة الباطل، وتنقل همس العامل في ظلام المعتقل، وتكسر جدار صمت المهمش على هامش الحياة. هي صرخة المهجّر من أرضه، وأنين المعذّب في زنازين الظلم، وهمسة الأسير خلف القضبان التي لا تقهر إرادة الحرية في روحه.
هنا، تتحول الكلمة إلى “صدقة جارية” بالمعنى الأخلاقي الأعمق؛ فهي تُغذي الروح بالكرامة، وتُطعِم الضمير العالمي بالحق، وتروي ظمأ العدالة التي أجدبت في أرض صحراء الصمت.
ولهذا، لم يكن “الملثم” مجرد ناطق إعلامي، بل كان ظاهرةً إنسانيةً فريدة. لم يكن يعطي بيانات، بل كان يمنح وجهاً للإنسان الذي يرفض أن يكون رقمًا، وصدىً للشعب الذي يرفض أن يكون أثرًا بعد عين. لم يكن يختبئ وراء قناعٍ خوفًا، بل ليرتدي قناع الفكرة المجردة، فيتحدث بلسان القضية لا بلسان الشخص، ليكون الجمع كله هو البطل، وتكون الرسالة هي النجم.
كسب قلوب العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، لأنه لم يتحدث بلغة الدم والحديد، بل بلغة القلب والروح. تحدث بلغة الألم المشترك، والأمل المشترك، والكرامة الإنسانية المشتركة. فلم ينتظره المتضامنون لمجرد سماع خبر، بل كانوا ينتظرون جرعةً من الكبرياء، وتذكيرًا بأن الإنسان، مهما بلغت قوة خصومه، يمكن أن يظل صامدًا، شامخًا، منتصرًا بإنسانيته. رددوا تعابيره بشغفٍ لأنها كانت تصوّر مشاعرهم التي عجزوا عن التعبير عنها. ارتدوا كوفيته بفخرٍ لأنها أصبحت رمزًا للعزة التي يبحثون عنها. وحملوا رسالته باعتزازٍ لأنها كانت هدية الإيمان بأن الظلم لا يدوم، وأن كلمة الحق، عندما تجد من ينطقها بشجاعة ويسمعها العالم بصدق، هي أقوى من كل دبابة، وأبقى من كل إمبراطورية. لأنها ببساطة… كلمة الإنسان.
لم يعد سلطان الكلمة لمن يملك المعلومة فقط، بل لمن يملكها “أولاً وبصحّة”: “فالكلمة العاجلة” تُسقِط سوقاً مالياً، أو تُنهي أزمة سياسية. و في “تغريدة واحدة” قد تنشعل حرب أو تنطفئ نار فتنة. في زمن الكوارث، تكون الكلمة الإعلامية منارةَ إنقاذ وهدى.
هنا يظهر الوجه المزدوج للكلمة: بين وجهها المشرق، عندما تكون أداة محاسبة شعبية، ومحكمة ضمير. ووجهها المظلم، عندما تتحول إلى “سيف مسلط” على الأبرياء بالإشاعة، أو إلى منصة للتحريض والكراهية. وقد أصبحت “محاكم الإعلام” تقضي قبل محاكم القضاء، فتنتهك حرمة البراءة وتدمر السمعة في لحظة.
كيف يُبنى سلطان الكلمة بالحق؟ إنه لا يُورَّث كمتاعٍ من متاع الدنيا، ولا يُشترى بكنوز الأرض قاطبة، بل هو شرفٌ يُكتَسَبُ بجدارة الوجدان وصدق المسعى.
إنه يُبنى بـ:
- المصداقية: وهي رأس المال الذي لا يعوّض، والعملة التي لا تنخفض قيمتها في سوق الضمير. هي أن تطابق الكلمةُ القلبَ، والقلبُ الفعلَ، لتصنع سيرةً للقول لا يعتريها الشك.
- الدقة: فالتحقق هو روح المهنة وأخلاقها. هو التأني في الحكم، والتثبت من الخبر، كي لا تتحول الكلمة إلى سهم طائش يجرح الأبرياء، بل تكون بصيرةً تنير الدرب.
- التوازن: وهو أن تعطي الحقيقة حجمها كاملاً، لا أن تعرض نصفها فتخونها. هو العدل في رواية الحكاية، وإعطاء كل صوت حقه في أن يُسمَع، حتى لو اختلفنا معه.
- الشفافية: حيث الاعتذار عند الخطأ ليس عيباً يُذلّ، بل فضيلةٌ ترفع. هي الشجاعة أن تقول “أخطأت” فتُصلح،لا أن تتكبر فتُهدم. هي النقاء الذي يجعل للكلمة بريقاً يثق به الناس.
- الاستقلال: أن تكون الكلمة حرةً طليقة، لا تسعى لرضا حاكمٍ ولا تاجر، ولا تخشى لومة لائم. هي أن تكون عبداً للحقيقة وحْدها، فلا تميل مع الهوى، ولا تُغريها السلطة، ولا تشترِيها المصلحة. فهذه هي الدعائم.. بها لا تُورث الكلمة سلطانها، بل تُخلّده. لا تملك القوة، بل تستحقها. لأنها في النهاية، ليست حروفاً على ورق، بل ضميرٌ نابضٌ، ورسالةُ إنسان.
الفرق الجوهري بين سلطان الكلمة في الوحي وبين سلطانها في الإعلام هو أن الأول سلطان إلهي مطلق، معصوم، يهدي إلى الحق. و الثاني سلطان بشري نسبي، قد يخطئ ويصيب، وهو محاسب عليه.
ولذلك، فإن سلطان الكلمة في الإعلام هو تكريم وتكليف في آن واحد: تكريم لأنها منحة عظيمة للتأثير والإصلاح و تكليف لأنها أمانة سيُسأل عنها كاتبها يوم القيامة: “كيف استعملت سلطانك؟ لمن أعطيت صوتك؟ وبأي حقّ أخفيت الحقيقة؟”.
فطوبى لمن جعل من كلمته: جسراً إلى الحق، ونوراً يكشف الظلم، ولساناً للمستضعفين، وسياجاً يحيط بالأمة من الفتن والبلاء. فهنيئاً لهم بما استخلفوا فيه من سلطان الكلمة، وسيلقون الله وهم عنها راضٍ، قد أدّوا الأمانة، وبلّغوا الرسالة.
فالكلمة سلاح ذو حدين.. قد تبني وقد تهدم.. قد تنصر وقد تهزم.
فنحن نملك سلاحاً أقوى من كل الأسلحة. إنه “الكلمة”. نستخدمها لنصرة الحق، نستخدمها لإشاعة المحبة.
نستخدمها للبناء لا للهدم.. هي بصمة نتركها في التاريخ. لنسأل أنفسنا قبل أن نتكلم أو نكتب:
بماذا أريد أن يذكرني به التاريخ؟
هل أريد أن أكون من صناع النور؟
أم أريد أن أكون شاهداً على الظلام؟
لنختر كلمتنا بحكمة.. لأننا سنُسأل عنها يوم القيامة فإن للكلمة أثراً عميقاً لا يمحى، فهي ليست أصواتاً تذهب هباء، بل هي أعمال تُسجّل في صحائف الأبناء، وتشهد بها الجوارح يوم القيامة. فإن خير الكلام ما نفع، وشرّه ما صدّ عن سبيل الله. وفي اليوم الآخر، تُفضح الأسرار، وتُكشف الضمائر، وتظهر حقيقة الكلمة التي نطق بها الإنسان: أهي خير يُثاب عليه، أم شرّ يُعاقب به؟ فالكلمة الطيبة صدقة، وهي كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وهي التي ترفع صاحبها في الدنيا والآخرة، وتكسبه محبة الله والناس.
أما الكلمة الخبيثة، فهي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. تُهوي بصاحبها في النار، وتُبعده عن رحمة الله. فكم من كلمة أودت بصاحبها في جهنم سبعين خريفاً!
فليتقِ العبد ربه في كلماته، وليُحسن اختيارها، فإنها علامة على إيمانه، ودليل على تقواه. فمن عرف قيمة الكلمة، استعظم خطرها، وخاف عاقبتها. والله تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.{ فكل حرف، كل همسة، كل كتابة، لها رقيب يسجلها، وعتيد يحفظها.
إن للكلمة سلطاناً عظيماً لا ينتهي عند حدود الدنيا، بل يمتد إلى اليوم الآخر، حيث تقف الكلمات شواهدَ على صاحبها، تشفع له أو تشهد عليه. فالكلمة الطيبة صدقة جارية، والكلمة الخبيثة وبال على صاحبها. إن الكلمة الحق نورٌ يهدي صاحبها يوم الحساب، حين تُظلم المواقف، وتعظم الأهوال. أما الكلمة الباطل، فهي ظلمة تُحيط بصاحبها، وتُثقله بذنوبه وآثامه. فليكن همُّ أحدنا أن تكون كلمته لله وفي الله، صادقة ناصحة، رفيقة رحيمة، عادلة متزنة. فإن الله يحب الكلمة الطيبة، ويكره الكلمة الخبيثة.
اللهم اجعل كلماتنا كلها خيراً، واهدنا لأحسن الأقوال و الأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.