القيم الأخلاقية في العلاقة الشغلية – يوسف الحزيمري
في مدوناتنا الفقهية باب خاص بالإجارة، عالج أحكام كثيرة متعلقة بالأجير باعتباره أحد طرفي عقد الإجارة، وباعتبار المنفعة المطلوبة منه، وبيان مدتها، أو نوعها ومحلها، والأجرة وتعجيلها، أو تأجيلها، ومن ناحية خياره وعدمه، ومتى تنفسخ معه الإجارة ومتى لا تنفسخ، وغير ذلك[1].
وفي القرآن الكريم الإشارة إلى مشروعية الإجارة، في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6)، قال القرطبي: «(فإن أرضعن لكم) – يعني المطلقات- أولادكم منهن، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن، وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية»[2].
وسمّى ما يقدم للمطلقة من نفقة على الرضيع أجرا، إشارة إلى أن الأب هو المتكفل بالإنفاق على الولد دون الأم، وأن الأم- مع وجود الأب- تعتبر كالأجنبية فى حال طلاقها، ومن هنا كان استحقاقها للأجر، لأنه فى مقابل عمل للأب، تستوفى عليه الأجر منه.[3]
وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (القصص: 26، 27)، قال ابن حيان: «وفي قولها: {استأجره}، دليل على مشروعية الإجارة عندهم، وكذا كانت في كل ملة»[4]، «وهي من ضروريات الحياة وفيها قضاءٌ لمصالح الناس»[5]، «وهذا مما انعقد عليه الإجماع»[6].
وقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الكهف: 77) فهذا يدل على جواز أخذ الأجر على إقامته [أي الجدار].[7]
وفي السنة النبوية ثبت ((أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر استأجرَا رجلًا من بني الدَّيْل هاديًا خريتًا)) والخريت: الماهر بالهداية، هذا الحديث أخرجه البخاري.
وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))[8]
وروي عن ابن عباس (رضي الله عنه) : ((إن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) احتجم وأعطي الحجام أجره))[9]
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خَصمهم يوم القيامة: رجل أعطَى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يوفّه أجره)).
والأخبار في هذا كثيرة، وأجمع أهل العلم في كلّ عصر وكل مصر على جواز الإجارة[10].
والإجارة في الاصطلاح الفقهي هي: ” عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم، وأركانها أربعة: عاقدان، وصيغة، وأجرة، ومنفعة “[11] .
والأجير هو: المستأجر للعمل على مال الغير، كالصانع والصائغ والحائك والقصار والخياط والنجار والخباز والراعي والرائض والمؤدب [12].
وفي مجلة الأحكام العدلية: (الْمَادَّةُ 413): الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي آجَرَ نَفْسَهُ[13]، وهو كما جاء في (المادة 422) من نفس المجلة على قسمان : الأجير الخاص؛ وهو الذي استؤجر على أن يعمل للمستأجر فقط كالخادم الموظف.
والأجير المشترك؛ الذي ليس بمقيد بشرط ألا يعمل لغير المستأجر، كالحمال، والدلال، والخياط، والساعاتي، والصائغ، وأصحاب كروسات الكراء، وأصحاب الزوارق الذين هم يكارون في الشوارع والجوال مثلا، فإن كلا من هؤلاء أجير مشترك لا يختص بشخص واحد، وله أن يعمل لكل أحد[14].
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «وحرصاً من الشريعة على حقوق العامل والعمال، ومن أخصها الأجور، اشترطت شروط معينة عند الاتفاق على عقد الاستئجار، منها: أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً قدره للعامل جنساً وقدراً وصفة كالثمن في البيع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم: «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» والعلم بالأجرة لا يحصل إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان الصريح. ويشترط أيضاً أن تكون المنفعة المؤجرعليها معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب ونحوهما من إجارة الأعمال، وإما بتحديد الأجل إذا لم تكن هناك غاية معروفة، مثل خدمة الأجير مياومة أو مشاهرة أو سنوياً، وذلك إما بالزمان إن كان المأجور عليه عملاً واستيفاء منفعة متصلة الوجود متتابعة التحصيل، مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان المطلوب مشياً مثل كراء الرواحل، أي وسائط النقل من مكان إلى مكان آخر.
واستحقاق تسلم الأجرة يكون بالعمل أو إنجاز المطلوب من العامل، للحديث السابق: «ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» فإذا لم يكمل عمله، يلزم المستأجر قدر عمل الأجير»[15].
وقد قنن الفقه الإسلامي علاقة المستأجِر بالمستأجَر، ومتى تستحق الأجرة، ومنه استمد قانون الالتزامات والعقود المغربي أحكامه بخصوص الإجارة في الكتاب الثاني: في مختلف العقود المسماة وفي أشباه العقود التي ترتبط بها، في القسم الثالث: المسمى بالإجارة، تناولت فيه أحكام الكراء، وإجار الخدمة والصنعة.
كما أن مدونة الشغل المغربية تسري أحكامها على الأشخاص المرتبطين بعقد شغل، أيا كانت طرق تنفيذه، وطبيعة الأجر المقرر فيه، وكيفية أدائه، و أيا كان نوع المقاولة التي ينفذ العقد داخلها…الخ،انظر: الفصل:1و2و3 من المدونة.
لكن ما لا نجده في هذا التقنين هو البعد القيمي والأخلاقي في العلاقة الاستئجارية والشغلية التي أكد عليها الإسلام في أحكامه العامة، والتي تعد أصولا يبنى عليها فروعا كثيرة في هاته العلاقة، ولنرجع إلى قصة موسى مع بنات شعيب وقول إحداهن: {يا أبت استاجره إن خير من استاجرت القوي الأمين}، أي إن خير من اسْتَعْمَلْتَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأَدى الأمانَةَ فيه[16]، وفي تفسير مجاهد أن شعيبا عليه السلام سأل ابنته؛ وما علمك بقوته وأمانته؟، فقالت: أما قوته فإنه رفع الحجر وحده، ولا يطيق رفعه إلا عشرة، وأما أمانته، فقوله: امشي خلفي، وصفي لي الطريق، لا تصف لي الريح جسدك”.[17] فجعلها موسى عليه السلام تمشي خلفه كراهية أن ينظر إليها.[18]
فهنا تلتقي العفة والأمانة باعتبارهما قيمتين خلقيتين ينبغي أن تتوفر في الأجير، إضافة إلى القوة المطلوبة لأداء العمل، فعن قتادة، قوله: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} قال: القوي في الصنعة، الأمين فيما ولي.[19]
كما أن المستأجِر أيضا ينبغي أن يكون من الصالحين المتحلين بالرفق والرحمة اتجاه من تحت يده من المستأجَرين، كما قال شعيب لموسى عليهما السلام {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي في جميع ما يجري بينك وبيني من المعاملة والصحبة[20]، وفي الوفاء بما قلت لك[21]، ستجدني من الرافقين بك[22].
وعلى أطراف عقد الإجارة أن يجعلا مراقبة الله لهما دافعا لإحسان العمل وأدائه على الوجه المطلوب، وأداء الأجرة مستوفاة قبل أن يجف عرق الأجير ولا يغمطه حقه، لذلك قال: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: واللَّه كفيل على مقالتي ومقالتك، والوكيل: هو الشهيد أو الحافظ، كأنه يقول: واللَّه على ما نقول شهيد.[23]
إن العمل عبادة والعبادة مطلوب فيها الإخلاص واستحضار النية والقيام بها على الوجه المأمور به مع الإحسان، وهو من جملة العمل الصالح الذي يفرج الله به الكرب، وقد أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة من بني إسرائيل خرجوا فآواهم المبيت إلى غار فلما دخلوا الغار وإذا بصخرة تقع على فم الغار وتسده، ولم يستطيعوا الخروج، وقاموا يتوسلون بصالح أعمالهم،… فقال الثالث: اللهم استأجرت أُجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمَّرْت [كثَّرْتُ] أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كل ما ترى مِن أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت: إني لا أستهزىء بك، فأخذه كله فاستاقه ولم يترك منه شيئا!!
اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
(فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون). و”القصة في البخاري ومسلم”
إذاً: العمل الصالح، والإخلاص، والرجاء فيما عند الله؛ إن توجه إلى الجبل أزاحه، وإن توجه إلى الماء جمد، وتتسخر كل القوى الطبيعية للعبد الذي يتوجه إلى الله بإخلاص.[24]
إذا استحضرنا القيم الإسلامية من العفة والأمانة والوفاء والرفق والرحمة والإحسان والنية الحسنة في علاقتنا الشغلية بأنواعها، وفي الإجارة بأقسامها، مع استحضار قيمة المراقبة الإلهية، فإننا سنكون على الطريق الصحيح في الإعمار والاستخلاف، وفي التحقق من مقاصد رفع بعض على بعض درجات في قوله تعالى: ﵟأَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَﵞ [الزخرف: 32]، أي ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، وجعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش في الدنيا…، ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا.[25]
***
- الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 65)
- تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (18/ 168):
- التفسير القرآني للقرآن (14/ 1012):
- البحر المحيط في التفسير (8/ 299):
- التفسير الوسيط – مجمع البحوث (7/ 1760):
- البحر المحيط في التفسير (8/ 299):
- التفسير الموضوعي 1 – جامعة المدينة (ص287):
- مُسْنَد أَبِي يَعْلَى: 12 /35. سُنَن ابن مَاجَه: 2/ 817. (المعجم الصغير) الطبراني: 1 /43. السنن الكبرى البيهقي : 6 /120
- صَحِيْح البُخَارِي: باب السعوط. 5 /2154 رقم (5367) صحيح مسلم: باب حل أجرة الحجامة 3 /1205 رقم (1202)
- التفسير الموضوعي 1 – جامعة المدينة (ص287):
- مغني المحتاج: 2/332
- بحر المذهب للروياني (7/ 191)
- مجلة الأحكام العدلية (ص80)
- مجلة الأحكام العدلية (ص81)
- الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (7/ 5031)
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 141)
- تفسير مجاهد (ص526)
- تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 342)
- تفسير ابن أبي حاتم (9/ 2967)، وتفسير الطبري جامع البيان – ط هجر (18/ 228)
- تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (8/ 163)
- تفسير الطبري جامع البيان – ط هجر (18/ 230)
- من تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 342)
- تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (8/ 164)
- شرح الأربعين النووية، لعطية سالم، (85/ 7).
- تفسير الطبري جامع البيان – ط دار التربية والتراث (21/ 596)