الفكرة الإصلاحية لحركة التوحيد والإصلاح.. الجذور والامتدادات – عبد الهادي باباخويا
من المعلوم عقلا ونقلا أن فكرة الإصلاح، حمل لواءها ابتداءً الأنبياء والرسل، وتتابعت مساهماتهم وتعبيراتهم فيها، حسب ظروف وأحوال أقوامهم. فكانوا هم القدوة والنموذج في وضع المعالم الرئيسية لفلسفتها، وبيان المنهج الأمثل في تنزيلها وتفعيلها.
فكانت تجربتهم نبراسا لكل مصلح، يأخذ منها حسب حاجته وطاقته، وفق قاعدة «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ». وتحقيقا لهدف تخليص الناس من قانون الغريزة، وإحلال قانون العقيدة في الفرد والجماعة والأمة.
بهذا الرصيد النبوي، توارثت أجيال الأمة الفكرة الإصلاحية، وأبدعت في احتضانها واستيعابها، وفي الحفاظ عليها متوهجة ومؤثرة. ومن هذا النسل الطيب وُلِدت حركة التوحيد والإصلاح، تدعو للإصلاح باتباع رسالة الأنبياء..
في هذا الموضوع، سنحاول تناول الفكرة الإصلاحية عند الحركة من خلال ثلاث محاور كبرى:
– سياق الفكرة الإصلاحية لحركة التوحيد والإصلاح.
– أسس ومرتكزات الفكرة الإصلاحية عند الحركة.
– الخصائص المنهجية للفكرة الإصلاحية عند الحركة.
أولا: سياق الفكرة الإصلاحية لحركة التوحيد والاصلاح:
من الأعطاب القاتلة في تفكير رواد العمل الإسلامي، وطرق بناء قناعاته، تغييب حلقة السياق وما يرتبط بها، من مؤثرات ثقافية وعوامل اجتماعية وشروط نفسية.
ذلك أن السياق يلعب دورا هاما، في فهم ظروف نشأة الفكرة وأسباب تطورها وأبرز ارتباطاتها، بما يفيد في تأصيلها وتشغيلها.
وقد ورثت حركة التوحيد والإصلاح الفكرة الإصلاحية، من رواد فكر النهضة المعاصرين، سواء من أهل المشرق أو من أهل المغرب. إذ تشرب قادة الحركة المؤسسين والذين جاؤوا من بعدهم، فكر الإصلاح من مدرسة الإخوان المسلمين، ذات الإرتباط بتجربة رواد النهضة الحديثة بالمشرق، بزعامة كل من محمد عبدو ورفيقه جمال الدين الأفغاني، وتلميذهما رشيد رضا.
هذا الثلاثي كانت قومته الإصلاحية، في اتجاه مناهضة الجمود والرجعية، ومقاومة التقسيم والتجزئة، ومحاصرة التبشير والعلمنة. بمشروع فكري وازن، يجمع بين الثقافة الأصيلة والمعرفة الحديثة..
كما تشرب أيضا قادة الحركة، فكر الإصلاح من رواده بالمغرب، أمثال أبو شعيب الدكالي وتلميذه محمد بن العربي العلوي، وأحمد بنشقرون ومحمد الحجوي وغيرهم كثير.. الذين قادوا حركة تجديدية، مناهضة للطرقية والقبورية والبدع والخرافات، ومقاومة للإحتلال وأساليبه في التقسيم والتجزئة، ومحاولاته للإلحاق والتبعية..
فتبلور من هذا الجهد – سواء المشرقي أو المغربي- تدافع حضاري قوي، ومساهمة فاعلة في مشاريع النهوض والانبعاث من جديد، تمحورت بالأساس في “تجديد الفكر الإسلامي” لانتشال الأمة من التخلف والجمود، وصون هويتها الجماعية من الانحلال والذوبان.
فاستفادت الحركة بما يناسبها من هذا الجهد، وأخضعت مساهماتهم للدراسة والتحليل والتقعيد والمراجعة. وأعلنت في كثير من أدبياتها وتصريحات وكتابات قادتها، أنهم يمثلون جانبا مضيئا من مسيرتها، وحلقة تاريخية من صيرورتها، ونسلا طيبا من رحم مرجعيتها.
ثانيا: أسس ومرتكزات الفكرة الإصلاحية عند الحركة:
كما هو جلي من إسمها، تعتبر حركة التوحيد والإصلاح منظمة إصلاحية، توظف كل وُسعها في تربية الفرد والأسرة والمجتمع على مبادئ الدين وقيمه، ودعوة كل الفاعلين لأداء رسالة الإصلاح بالتعاون والتكامل والتنسيق.
ومن خلال أدبيات الحركة وأوراقها المؤطرة لعملها ومؤسساتها، نجد فكرتها الإصلاحية تتأسس على مرتكزات واضحة، نذكر منها ثلاثة وهي:
أ- مرجعية دينية باختيارات مغربية:
تستند الحركة إلى الإسلام باعتباره مرجعية حاكمة للدولة والمجتمع، وثابتا مُوحدا لمختلف الحساسيات والانتماءات المكونة للنسيج المدني. فجعلت منه ركنها الحصين، الذي تقوم عليه اجتهاداتها ومواقفها واختياراتها، والمحضن الآمن لمجالسها ودوراتها، وأعمالها التكوينية وأنشطتها المختلفة.
وتحدد الحركة طبيعة هذا الإستناد وأصوله وثوابته، في ارتباطه بالتراث المغربي تدينا ومذهبا، وبنبوغ علمائه وأمرائه وصلحائه وما بذلوه من جهد فكري وعمل جهادي، وبأمجاد تاريخه وإنجازاته وما حققته من وحدة وانسجام ومن قوة واستقرار.
ب- توجهات وسطية بوسائل عصرية:
من المعالم المميزة لفكرة الإصلاح عند الحركة، هو توجهها الوسطي القائم على الإعتدال في بناء التصورات والمواقف، بحفظ الثوابت والأصول مع التجديد في المتغيرات والفروع. وبالتوازن في اتباع نصوص الشرع، ورعاية مقاصدها، وبين رعاية ظروف العصر وضغط تحدياته..
فالتثبت بالمرجعية قرآنا وسنة، وما يتطلبه من فقه ونظر واجتهاد، يوازيه أيضا مثابرة في التخطيط والبرمجة لواقع متطور، ورصد لعناصره ومكوناته المتشعبة، بما يؤدي إلى اختيار أفضل الآراء وأحسن الوسائل وأليق المناسبات، لخدمة دعوة الإسلام ورسالته الخالدة.
ووسطية الفكرة الإصلاحية عند الحركة، بقدر ما تستفيد من جهود السلف الصالح رحمهم الله، وتأخذ من عطائهم واجتهاداتهم، تنفتح على كسب العصر وما أنتجه من علوم ومعارف، وما اهتدى إليه من حقائق وتجارب. في تفاعل يومي مع الأحداث والمستجدات المتنوعة، دون ذوبان في بريقها أو هروب وتقاعس في مجابهتها..
ج- التزامات رسالية بأبعاد تجديدية:
تظل رسالية الفكرة الإصلاحية، إحدى المرتكزات الهامة في رؤية الحركة ومنهجها، وفي فعلها وممارستها الميدانية..
فالمساهمة في إقامة الدين وتجديد فهمه والعمل به، والتعاون على ترشيد التدين، وإشاعة قيم الاستقامة والصلاح بين عموم أفراد المجتمع المغربي، هي مفردات دالة على طبيعة المشروع الرسالي لفكرة الحركة، في إصلاح الواقع والارتقاء به في مدارج الخير والعطاء، وفق إمكانات وظروف البيئة المحلية، وما تتيحه من فرص ومحفزات، وما تستدعيه من جهود وتضحيات، وما تتطلبه من روح تجديدية ومبادرات نوعية..
من ذلك انتقالها من شعار “نشر التدين” لتكلفته الباهظة، إلى “ترشيد التدين” لما يتيحه من مساحات واسعة للفعل والتأثير، دون قيود أو ضغوط.
وتحولها أيضا من “تنظيم شمولي” يقوم بكل أدوار الدعوة دون حصيلة تناسب الجهد، إلى “تنظيم رسالي” يتابع عمل التخصصات ويركز في أداء وظائفه الرئيسية.
ثالثا: الخصائص المنهجية للفكرة الإصلاحية عند الحركة:
ككل الجماعات الإصلاحية المنظمة، حرصت الحركة على تخصيص فكرتها الإصلاحية، بمميزات دالة على طبيعة المشروع الرسالي الذي ترعاه وتحمله، بما يبرز شخصيتها المتفردة في العمل الحركي الإسلامي، ويحدد معالم التجديد والإبداع في هذه الفكرة بأبعادها وتمظهراتها المختلفة.
ونظرا لكثرة هذه الخصائص، وضيق مجال الإحاطة بها كلها، نقتصر على ذكر ثلاثة منها، وهي:
أ- عمل جماعي منظم تفكيرا وتدبيرا:
في إطار حركية الفكرة الإصلاحية، وتفاعلاتها الميدانية مع البدائل المطروحة، وحاجتها للاستفادة من وسائل العصر وإمكاناته المتاحة، انخرطت الحركة في مشروع العمل الجماعي المنظم، كخطوة منهجية لتوطين الفكرة الإصلاحية واحتضانها مؤسساتيا، وضمانا لاستمراريتها وتطورها في تفاعلها اليومي، مع تحديات العصر وحاجات المجتمع ومتطلبات الدعوة الإسلامية.
فعرفت الفكرة الإصلاحية في ظل هذه الخطوة المنهجية، طفرة نوعية في فلسفة التنظيم والعمل الإداري المؤسساتي، وتقنيات التخطيط والبرمجة ووسائل التوثيق والمتابعة.. كما عرفت تطورا ملحوظا في مناهج التفكير دعويا وتربويا، بما يتناسب والمهام الرسالية للفكرة الإصلاحية، وبما يحافظ على وضوحها وتألقها.
ب- التدرج ومراعاة سنن التغيير الحضاري:
من السنن الكونية والأصول الشرعية، التي أطرت الفكرة الإصلاحية عند الحركة، هو أخذها بقاعدة التدرج في تنزيل مقتضيات الدين على واقع المجتمع. بترتيب أولويات العمل بالفكرة الإصلاحية، وفق معطيات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، ومآلات تنزيل كليات الدين ومقاصده الأصلية والتبعية عليها. بما يحقق أهداف المشروع الرسالي الشامل، في توازن بين الإمكان البشري والواجب الديني.
وهذا ما اقتضى مراعاتها لسنن التغيير الحضاري، من قوانين علمية محكمة، وتجارب بشرية معتبرة، وحقائق تاريخية واضحة. جعلها نموذجا عمليا في الفهم السليم والتوظيف الحكيم، لقضية الإسلام المعاصرة وأطروحته الحضارية..
ج- التدافع السلمي والمشاركة الإيجابية:
هي أيضا من القواعد المنهجية المؤطرة للفكرة الإصلاحية عند الحركة، إذ تنطلق من طبيعة الحياة الإنسانية، المجبولة على التدافع بين الخير والشر، بشتى الوسائل والصور.
واختيار هذه القاعدة المنهجية، مبدأً أصيلا في مشروع الحركة، راجع لاعتقادها أن التدافع السلمي مع قيم الشر وأفكاره ومؤسساته، هو تنافس اجتماعي شريف، وتفاعل ثقافي عميق، وتحفيز نفسي رشيق، يجنب الساحة المدنية لغة العنف وأسلوب الصراع، المؤدي إلى التصادم والقتال..
ومن رحم هذه القاعدة المنهجية ترسخ في سلوك الحركة، مبدأ المشاركة الإيجابية. لكون عملية الإصلاح مسار طويل ومعقد، يجب أن يتعاون عليه جميع الشركاء بشتى انتماءاتهم وعلاقاتهم، بعيدا عن الحياد السلبي أو المفاصلة الميدانية. فهو “حق للجميع وواجب على الجميع”.
وفي ختام هذا الموضوع، نؤكد أن الفكرة الإصلاحية للحركة، هي رؤية شاملة ومتكاملة، بدءًا بتحديد الإشكال الحضاري الذي تعاني منه الأمة، وانتهاء بطرح بدائل وخيارات تساهم في إعادة تشكيل نفسية المسلم وتطلعاته، وتحصين مؤسسة الأسرة ودعم أدوارها، وتمكين المجتمع من ثقافة الواجب وتشجيعه عليها، ولملمة شمل الأمة وتجميع أطرافها..
ملحوظة: أصل هذا الموضوع، مداخلة تم إلقاؤها باللقاء التكويني لأعضاء منظمة التجديد الطلابي بمكناس.