الفسيلة.. حين يولد الأمل من رحم اليأس – الزهرة الكرش

تتمزق الأمة أشلاءً ويعتصرها الألم والحزن، وكأنها جسد نُزعت منه الروح، أو شجرةٌ اهتزت عروقها حتى تفتتت أغصانها. المتأمل في حالها، والمتأثر لِمصابها، لا يكاد يجد أمامه سوى مشاهد الدمار والفرقة، فيتسلل إلى قلبه اليأس كالسراب الخادع، ويظن أن الأمل قد أصبح حلماً بعيد المنال، وأن النور الذي يبحث عنه قد احتجب خلف سحب الظلام الكثيفة.
أمتنا اليوم تمر بمرحلة عصيبة من تاريخها، على طريق مملوء بالأشواك لا نهاية له. تتساقط أوطان، وتُزهق أرواح، وتُسلَب كرامات. لم يتبق منها شيء، بل باتت أشلاءً مبعثرة تتقاذفها رياح التيه. في كل زاوية من هذا الواقع، قلوبٌ تئن وجعاً، وعيونٌ تنزف دماً لا دمعاً، وكأن اليأس قد كتب على الجدران، والنور قد أُطفئ إلى الأبد.
وغزة، غزة اليوم مثال حي على مرارة هذا الواقع. فهي ليست مجرد مدينة محاصرة، ولا أرض منكوبة، بل هي مرآة تعكس مدى الخلل في ضمير هذا العالم. منذ أكثر من سنة وهي تعيش تحت نيران مستمرة، قصف لا يهدأ، وغارات لا تعرف الليل من النهار، وجثث تُنتشل من تحت الركام، وأشلاء أطفال تُلملم بأيدٍ مرتجفة. وأمهات ثكالى ينادين أسماء أطفالهن فلا يأتيهن الرد. أحياءٌ أُبيدت، عائلاتٌ مُسحت من السجلات، ووجوهٌ كانت تملأ المكان بالحياة، غادرت دون وداع.
المستشفيات لم تعد ملجأ للمرضى الباحثين عن أيد رحيمة تُسكِّن الوجع، بل أضحت غرف انتظار للموت، تُجرى فيها العمليات دون تخدير، وتتعالى فيها صرخات الأرواح بلا معين. لا ماء، لا كهرباء، لا طعام، لا دواء، لا ملجأ. لم يعد للدمع مكان، فقد جفّت المآقي من كثرة البكاء. وحتى من نجا من القصف، لم ينجُ من الجوع والبرد والمرض والخذلان.
إن ما يحدث في غزة ليس كارثة طبيعية، بل جريمة مستمرة تُرتكب على مرأى العالم، وسكوته أقسى من القصف ذاته. كيف لهذا العالم أن يغمض عينيه؟ كيف يبرر القتل الجماعي بحجة “الدفاع”؟ أي دفاع هذا الذي يبيح قتل الطفولة، وإبادة الآلاف، وتدمير البيوت على ساكنيها؟ أي منطق يقبل بتجويع مليون طفل؟
لكن فجأةً يتحول المشهد وتهدأ النفوس، حين يظهر في الصورة الحبيب صلى الله عليه وسلم، حينما نستحضر ذلك “الوجه المشرق”، الذي دفؤه يذيب جليد اليأس، ونوره يخترق حجب الظلام. إنه الهادي عليه الصلاة والسلام، الذي أضاء الدرب برسالته، وغير وجه العالم بما أوحى له ربه. إن الاستمداد من معين سيرته عليه السلام، يذكرنا بأن المستحيل وهم، وأن الفرج يأتي بعد العسر.
يتراءى عليه أفضل الصلاة والسلام وقد ألم به الهم والحزن وذاق لوعة الألم والخيانات، ولكن تفاؤله وبُعْد رؤيته وثباته، ينقل إلى عالم يخاله المرء لم يعد موجودًا إلا في حكايات ما قبل النوم، التي تروى للأطفال، وتجعلهم يعيشون في عالم حالم، يتناقض كل التناقض مع واقع الحال.
يتراءى عليه الصلاة والسلام، وهو يواجه أعتى المحن، يُعاديه قومه، يتآمرون عليه، يخونونه، يطردونه، يعيرونه، بل ويحاولون قتله، ومع ذلك يبقى صابراً محتسباً، كأنما الألم لا يمسه، والظلم لا يكسر عزيمته.
نراه وهو يحث على غرس الفسيلة (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها). هذه الفسيلة ليست مجرد شتلة تُدَسّ في التراب، بل هي رمز الأمل، وهي العزيمة التي لا تنكسر، هي الإيمان بأن الغد سيكون أجمل ما دام القلب متعلقاً بالله. هي إصرار على العطاء والبذر وإن اشتدت المحن.
وهذا ما تؤكده غزة التي تنتصب شامخة صامدة، فرغم الألم الذي يخنق الأنفاس، تقف على أطرافها المبتورة، وتبني أملًا من تحت الرماد. أطفالها يحفظون ويسردون القرآن تحت دوّي القنابل، يكتبون أحلامهم على جدران الخيام، يبتسمون رغم القصف والحصار، وكأنهم خُلقوا من روح لا تعرِف الانكسار. إنها المعجزة الحقيقية، أن تبقى غزة حيّة رغم كل محاولات وَأْدِها، أن يبقى فيها نبض أمل، وسجدةُ شكر، ورضا عجيب يخرج من قلوب أرهقها الألم، كأن لسان حالها يخاطبنا قائلا: “لست بحاجة لشفقتكم، بل لصحوتكم.لست بحاجة لدموعكم، بل لإيمان يكسر القيود فيحرركم، فتقوموا لنصرة الحق والعدل”.
غزة لا تحتضر، بل تحيي فينا ما مات. غزة تغرس الفسيلة رغم القهر والظلم ولوعة الخذلان. غزة تنادينا للسير في طريق الحرية والتحرير للأنفس والأوطان. غزة تعلمنا أن العِزة أغلى من الحياة. غزة تخبرنا أن الأنبياء لم يورثوا ذهباً ولا فضة، بل ورّثوا كرامة وعقيدة لا تباع في سوق السلاطين.
غزة بداية الوعي وولادة جديدة للأمة من تحت أنقاض الانكسار. غزة فسيلة الأمل التي تروى بدماء الشهداء ودموع الأمهات، وتظللها أجنحة الأحرار.
غزة هي الفسيلة، والفسيلة إعلان عن مشروع ميلاد أمة. إن ما نحتاجه ليس معجزة تهبط من السماء، بل عزيمة تصنع المعجزات. نغرس بفكرة، فكل علم نعلمه هو بذرة أمل. نبني ونشيد الجسور، فكل وحدة نحققها هي فسيلة انتصار على الفرقة. نصمد بإرادة، فاليأس خيانة لثقة الله بنا.
نعمل بهمة وكلنا أمل، فأمتنا اليوم تقف على مفترق طرق، فإما أن تحدّق في الدمار فتُشَل وتغرق في دوامة اليأس، أو ان ترفع بصرها نحو تلك “الفسيلة” وتبدأ بالزرع من جديد.
قد لا تثمر الفسيلة غدًا، لكنها حتمًا ستظل شاهدة على أننا لم نستسلم، وأن جذورنا لا تزال وستبقى ضاربة في الأرض، تنبض بالحياة، وتترقب بزوغ الفجر.