الفاعل المدني وسؤال مناخات وتضاريس الأعمال – الحبيب عكي
كثير هو العطاء المدني المبهر والمقنع في جل مجالاته وعلى مختلف أصعدته، ساعات من التطوع لا تعد ولا تحصى، تعبئة الموارد البشرية والمالية في الداخل والخارج، سياسة القرب الحقيقية مع مختلف الفئات الاجتماعية خاصة ما يكون منها في وضعيات هشاشة صعبة ومفككة، ملأ العديد من فراغات الدولة في مناطق الفقر والهشاشة والتفكك الاجتماعي، الترافع القوي على العديد من التشريعات والقضايا المجتمعية الوطنية والدولية.
وطبعا، يمكن أن تتضاعف هذه الجهود المثمرة أضعاف مضاعفة لمصلحة الجميع، وتكون مردوديتها معيارية ومتنافسة كما في بعض الدول المتقدمة، حيث يمكن أن نجد فيها العديد من أحيائها نظيفة وحيوية، منظمة ومكتفية..، لا بشيء إلا بمجرد جهود المجتمع المدني ويقظته وحيويته.
ولكن مع الأسف، لا يزال مجتمعنا المدني في مجمل طيفه متواضع المردودية، إن لم يكن بعضه يعمل خارج قضايا الملفات المدنية الحقيقية، وبعضه في متاهات تمييع المناخ المدني وفيض ريعه المتسخ ولا يبالي، وبعضه، وبعضه.. ولكل ذلك أسباب ومسببات منها.. ومنها وبالتأكيد أيضا منها:
1- منظومة العمل المدني الحالية، والتي يشتغل بها الفاعلون المدنيون في مؤسساتهم، هي متقادمة وغير مواكبة، وقد أصبحت اليوم مقيدة لا محررة، معسرة لا ميسرة، وأخطر ما فيها أنها خاضعة للتأويلات والانحيازات.
2- حشر بعض السلطات أنفها في قانون الحريات العامة، بشكل مزاجي.. تسلطي.. شططي.. انحيازي.. غير قانوني ولا شفاف.. قد تصل صلافة بعضها إلى حد رفض تسلم ملفات بعض الجمعيات.. ورفض تسليم وصولات تأسيس أو تجديد بعضها.. وتحويل بعض الاشعارات في الأنشطة إلى تراخيص ضرورية وملزمة.. مع رفض منح بعضها دون مبررات.. وإن تعلق الأمر بمجرد الحق في استعمال القاعات والفضاءات العمومية.
3- عدم استقلالية بعض الجمعيات، وسعي بعضها للتزلف للسلطة ذاتها، إن لم تكن هذه الأخيرة هي من انشأتها تحت الغطاء ولمهام خاصة، كجمعيات ضرار الوديان والسهول تولد وفي فمها ملاعق من ذهب.. وفي يدها كل مشاريع الدولة وجل شراكاتها، مشاريع التنمية البشرية ومحو الأمية ومحاربة الجفاف و”فرصة” و”أوراش” وغيرها كثير ومخوصص.
4- سيادة عقلية التشرذم وضعف الالتقائية لدى جمعيات المجتمع المدني الجادة، نظرا لما سبق من المناخ المدني الموبوء ومن تضاريس العمل المنزلقة، والتي أصبح فيها الجميع يحتاط لنفسه وجمعيته، ويفضل الاصطفاف إلى جانب السلطة والمال، والانخراط في مشاريع التحكم والاستبداد، ولو على حساب الفعل المدني الحقيقي، الذي يقول لمن أحسن أحسنت ويساعده، ولمن أساء أسأت وينتقده، كائنا من كان.
ولهذا، لا غرابة أن يعتقد بعض الأفراد جازمين وبعض الهيئات والمؤسسات الحازمة أن لا وجود لشيء اسمه المجتمع الأهلي ولا المجتمع المدني في العالم العربي ككل وتحسم في ذلك، لأن كل شيء لا يمكنه أن يتحرك إلا تحت عباءة السلطة وبعلمها وقبولها وترخيصها، وفي فضاءاتها والاتجاه الذي تريده ومن طرف من تريد وفي الجهات وبين الفئات التي تريد.
وهذا لن يجعل يوما المجتمع المدني يتحرك في إطار القانون والحرية والمسؤولية كما عند الآخرين، وببرامجه الخاصة وفق أهدافه ورؤاه التشاركية والاصلاحية، بل غاية القيد السلطوي المباشر وغير المباشر.. الواعي و غير الواعي، أن يفرخ هيئات مدنية سلطوية أخرى لا تنتج غير مزيد من عجز السلطة مثلها وبمزاجها، لن تكون فيه يوما بل دوما لا ديمقراطية الحقوق ولا تنمية الخدمات وعموميتها، فبالأحرى ما يتحرك المجتمع المدني الحقيقي من أجله والذي أسه وأساسه العدالة الاجتماعية والمجالية والانصاف التنموي والحقوقي في جميع المجالات.
لا مجتمع مدني تنموي إصلاحي حقيقي، إلا بعلاج هذه المعضلة التي هي علاقة السلطة على مختلف مستوياتها بالمجتمع المدني على مختلف هيئاته، هذه العلاقة المتوترة التي طالما أفسدت تضاريس العمل المدني والسلطوي معا، وطالما أفسدت المناخ الحقوقي والديمقراطي العام في بلداننا المبتلاة فجعلتها متوجسة على الدوام، مع العلم، أن المجتمع المدني من جهته ليس لديه أي إشكال اسمه السلطة أو النظام أو حتى المعارضة فقط، فانطلاقا من المبادئ المدنية العالمية التي يؤمن بها وتؤطره، فالمجتمع المدني مجتمع متطوع.. حر منظم ومستقل.. سلمي خدماتي وترافعي.. لا يسعى إلى السلطة ولا أن يكون بديلا لأحد، بل مجرد مساهم مع من كان من أجل جهود التنمية وخدمة الفئات الهشة والترافع عن قضايا الوطن والأمة، وميكانيكيا فهو ليس لا مع على طول ولا ضد على طول.. بل هو مجتمع يكون مع من أحسن ويقول له أحسنت ويدعمه، و يكون ضد من أساء ويقول له أسأت وينبهه للعدول عن الخطأ والعودة إلى الصواب بشكل سلمي وعلمي مدني وحضاري، واليوم مع الدستور الجديد بشكل تشاركي في وضع السياسات العمومية وانجازها ومواكبتها إلى التشاور العمومي حولها وتقييمها وتطويرها.
نعم، تخسر الدولة والمجتمع الكثير والكثير بهذا التعامل المتوجس والمقيد للمبادرات التطوعية بين بعض السلطات وبعض الجمعيات، ولا انفكاك منه إلا بحسن النوايا، والثقة المتبادلة، وإعمال المفهوم الجديد للسطلة: سلطة القرب الميداني والإشراك العملي، والتشاور العمومي، والشراكة المعيارية دون وصاية احتكار المواطنة والمصلحة العامة من أي طرف، كذلك ضرورة تفعيل المكانة المرموقة التي أولاها الدستور الجديد للمجتمع المدني، حيث شدد على ضرورة التكامل بين الديمقراطية النيابية (التمثيلية) والديمقراطية التشاركية (المدنية) التي تقضي بشأنها الفصول 12..13..15.. من الدستور حق التشاور العمومي وتقديم العرائض والملتمسات والمذكرات، ومسؤولية المشاركة في وضع السياسات العمومية وتنزيلها مراقبتها وتقييمها وتطويرها كما أشرنا.
لكن مع الأسف، يبدو أن العكس هو ما يحدث الآن حيث يتم إقبار توصيات الحوار الوطني مع المجتمع المدني بدل إخراجها إلى حيز الوجود وتفعيلها في الحياة المدنية والسياسية والتنموية للبلاد. والعكس هو ما يحدث، حينما يتم إقرار كل تجاوزات السلطة اتجاه الجمعيات، ولم نرى فيها يوما أي من شعارات الحكامة وتخليق المرفق العمومي والحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة..، ناهيك عن المفهوم الجديد للسلطة، مفهوم القرب والحوار والاشراك، والمقاربة الحقوقية والدستورية بكونيتها…
وأيضا، حين يظل الورش التشريعي المدني مجمدا رغم شعور الجميع بضرورة تحريكه وتحريره من قيوده. أستغرب وأخشى مع من يستغربون ويخشون أن المغرب قد يستغني عن جمعيات المجتمع المدني الجادة كما يستغني الآن عن بعض الأحزاب الوطنية الجادة، أو يريد مجرد مجتمع مدني للديكور والتأثيث والريع والتمييع. هيهات هيهات، فالمجتمع المدني وعي الأمة وضميرها لابد يوما سيزهر ربيعه، لكن، باللازم من الحرية وحق التنظيم والاستقلالية في إطار من المسؤولية والحكامة التي تتسم بدورها بسيادة القانون قبل كل شيء والمصلحة العامة فوق الجميع، وتلك معالم كبرى وجماعية وحدها الكفيلة بتسوية تضاريس الأعمال المدنية الوعرة وتحسين مناخاتها المضطربة وفك قيودها.