العشر الأوائل من ذي الحجة منافسة على الأعمال الصالحة
الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد :
أيها الإخوة والأخوات،
نحن على مقربة من أيام فاضلة عظيمة تشبه في فضلها وقدرها بالعشر الأخيرة من رمضان، فكما يأتينا عيد الفطر بعد تلك العشر الأخيرة يأتينا عيد الأضحى بعد هذه العشر الأولى.
هذا الشهر الذي يحتضن هذه العشر، هو أحد أشهر الحج، وهو في نفس الوقت أحد الأشهر الحرم، وهو آخر شهر للسنة الهجرية، ونصف أيامه مباركة، وفيه الأيام المعلومات وهي العشر الأولى، وفيه الأيام المعدودات وهي الأيام الثلاثة بعد العيد. قال الله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)، وقال عز من قائل (واذكروا الله في أيام معدودات).
وقد كنا أصدرنا توجيها تربويا بمناسبة شهر رمضان جعلنا عنوانه “رمضان وترشيد التدين”، وكل ما جاء فيه يصلح أن يعاد في هذا التوجيه، لأن ترشيد التدين شعار مستمر ما دامت مراتب الرشد لا تنحصر ومادام ليلها بالمجاهدة المتواصلة.
إن اختيار الأزمنة الفاضلة لتحقيق الطموحات والدفع بالمخططات خطوات إلى الإمام منهج سليم يعين على تحقيق المطلوب، ولذلك فإن هذه العشر التي أقسم الله تعالى بها في سورة الفجر في قوله (والفجر وليال عشر)، تصلح لتحقيق المزيد من الرشد في الاهتمامات والأولويات والأعمال والتصرفات، حتى إذا انتهت السنة الهجرية وجدنا أنفسنا بحمد الله قد قطعنا أشواطا جديدة على طريق الراشدين.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر- قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”.
ومن الأعمال التي يمكن أن نسمي في هذا المقام :
1 – الصلاة: فإن في الصلاة تلاوة القرآن والذكر والدعاء، وفيها القيام والركوع والسجود هي فرائض ونوافل. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى : “ما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني أعطيته ولئن استعاذ بي لأعيدنه”.
2 – الصيام : وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام “عليك بالصيام فإنه لا عدل له” -أي لا يعدله في مجال التقرب إلى الله تعالى شيء آخر-. وفيه أيضا “أن من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين عاما”. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”.
وعبادة الصوم على عكس الصلاة. فالصلاة فعل والصيام ترك، ولذلك فهو يفرغ الصائم ليشتغل بأنواع العبادات الفعلية من صلاة وذكر ودعاء وإحسان وتفقه وجهاد ودعوة وغيرها… إضافة إلى ما يحصل به من التقوى والخشية والتحرج من المعاصي والذنوب. فمن أحب أن يصوم هذه العشر، وصيامها مشروع بل مرغوب مستحب، ومن لم يصمها كلها فليصم منها ما تيسر. وفي حديث عبد الله ابن عمر ابن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ” صم من الشهر ثلاثة أيام، فإنه صيام الدهر”، ومعناه أنه إذا صام ثلاثة أيام، والحسنة بعشر أمثالها وواظب على ذلك، فقد صام العمر كله. ومن لم يصم من العشر شيئا فليصم يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده”.
3 – ذكر الله تعالى : هذه الأيام هي لذكر الله تعالى كما قال سبحانه (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات). ومن أعظم الذكر قراءة القرآن وسماعه وحفظه وتفسيره وتحفيظه وتعليمه. ومن الذكر الحضور في مجالس القرآن والحديث والعلم فإن المجتمعين فيها يذكرون الله تعالى بذكر أسمائه وصفاته، وبذكر آياته ومخلوقاته، وبذكر آلائه ونعمه، وبذكر أحكامه وشرائعه. وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد. وكان عبد الله ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما” رواه البخاري. وقال : “وكان عمر يكبر في قبته بمنى -يعني في خيمته- فيسمعه أهل المسجد فيكبروا ويكبر أهل الأسواق حتى يرتج منى تكبيرا”. وكان عبد الله ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه في فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا”.
4 – الدعاء والاستغفار: والذكر والدعاء متلازمان. بل إن الدعاء من الذكر وهو في الأوقات الفاضلة أرجى في الإجابة، وهو عمل صالح وهو مخ العبادة. وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام : “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيئون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”.
فليتلفظ المسلم بدعائه هذه الأيام خاصة عندما يكون صائما أو قائما أو ذاكرا أو تائبا مستغفرا.
5 – العمرة والحج: فأما الحج فلا يكون إلا في الأيام المعلومات والأيام المعدودات. وأما العمرة فتكون في هذه الأيام وغيرها، فمن استطاع أن يكون في هذه الأيام حاجا ومعتمرا فليكن، ومن لم يستطع فلتكن النية في قوله بأن من حبسه العذر عن عمل صالح فله أجره بالنية الصالحة. وفي الحديث “من هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة”. لذلك إذا أخذ المسلم بالأسباب يعمل عملا صالحا فمنعه منه أمر خارج عن إرادته كتبه الله له بفضله وكرمه.
6 – إطعام الطعام وإنفاق المال: فمن استطاع أن يجمع بين العبادة المالية والعبادة البدنية فهو أفضل من الاقتصار على إحداهما. وإنفاق المال في وجوه الخير هذه الأيام أحب إلى الله تعالى وأعظم أجرا، لفضيلة الزمان الذي تقع فيه تلك النفقة، وهناك حكمة أخرى وهي أن هذه العشر تنتهي بعيد الأضحى، فمن أسهم في إدخال السرور على الفقراء بشراء أضاحي العيد أو ملابسه أو لوازمه فهو قد اختار أحب الأعمال إلى الله تعالى، لأن “الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”. وفي الحديث كذلك “إن أحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم”. وإدخال السرور قد يكون بزيارته، أو قضاء دينه أو الإهداء إليه، أو الإحسان إلى أهله وأبنائه، أو السير معه في حاجته أو الشفاعة بقضاء بعض أغراضه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فإذا جمع المسلم بين عبادة البدن وعبادة المال فقد طرق أبواب الخير. ففي حديث معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم على أبواب الخير، الصوم جنة -أي وقاية- والصدقة تطفأ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا قول الله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).
فجمعت الآية بين قيام الليل وإنفاق المال. كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة بين الصيام والقيام، ليعلم الناس أن التقرب إلى الله تعالى يكون بالبدن والمال.
7 – كل معروف صدقة : قد لا يستطيع بعض المسلمين أن ينافسوا على العبادات المالية لفقرهم وقلة أموالهم وحتى لا يذهب الأغنياء بالأجور والدرجات العليا، وسع النبي معنى الصدقة فلم يجعلها مالية فقط، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتصلح بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، وكل معروف صدقة. ومن المعروف تعليم العلم لمن لا يعلمه، وبذل الخبرة لمن يحتاج إليها، والوساطة في الخير، وإرشاد الضال وإكرام الضيف والإحسان إلى الجار وكفالة اليتيم وإطعام المسكين وإيواء المشرد وإعطاء الفقير، وحتى عندما يكف المرء شره عن الناس فهو صدقة منه على نفسه.
8 – الكف عن الشر : إن الصيام الذي تقدم ذكره ليس كفا عن الأكل والشرب والنكاح، بل هو كف عن الذنوب والآثام كلها. ولهذا فهذه الأيام الفاضلة لا تصلح لشئ من المنكرات. ولا يجوز أن يظلم المسلم فيها نفسه أو غيره. قال الله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرة شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)..
وفي خطبة الوداع قال النبي: “أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا”. فسوى صلى الله عليه وسلم بين دم المسلم وعرضه وماله، وبين حرمة شهر ذي الحجة وحرمة يوم عرفة وحرمة البلد الحرام.
فيا أيها الإخوة والأخوات، سمينا بعض الأعمال الصالحة. وأبواب الخير أكثر من ذلك. فنافس على هذه الأعمال حتى تكون من أهلها، وادع غيرك إليها حتى يكون لك أجر من عمل بها.
وفقنا الله تعالى لصالح الأعمال
والحمد لله رب العالمين
د. محمد عز الدين توفيق