العربية لغة ثراء العقل والروح والأخلاق – الحبيب عكي
لاشك أن أجيال اليوم من الشباب أو بعضها على الأقل ممن كثر أو قل، تعاني العديد من التوترات والاضطرابات وحتى من الانحرافات التي تنغص إن لم تهدد حياته واستقراره وأمنه الروحي والنفسي والجسدي، بل وحتى تعايشه السلمي مع أهله والآخرين في المجتمع، ولعل من أهم أسباب ذلك ارتماء هؤلاء الشباب رغما عنهم أو باختيار منهم في براثين ثقافات الآخرين ومسالك لغاتهم وألسنهم، واللغة واللسان جسر الثقافة وموردها الأساسي، والثقافة في الأول وفي الأخير هي ما يحدد أفكار هؤلاء الشباب بالسلب أو الإيجاب ويبلور سلوكهم بالخصوصية الوطنية أو الاستلاب، ومن الاستلاب فساد الذوق الفني والأدبي والرياضي والإعلامي، وميوعة التدين ربما إلى درجة لا يحل صاحبه حلالا ولا يحرم حراما ولا يقف عند حدود الله.
ترى ماذا فقد هؤلاء الشباب بهجرهم ثقافتهم الإسلامية الأصيلة وازدرائهم بعض لغتها العربية الجميلة، وماذا يمكنهم أن يسترجعوه إذا ما بذلوا بعض الجهد الذي سيحررهم ويعود بهم إلى محاضنها اللغوية العربية الثرية والثقافية والدينية الطبيعية والآمنة ؟
وإذا كانت الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي هي كل ذلك المركب الكلي من الأفكار والعقائد والعادات والعبادات والقيم والسلوكات…التي تطرأ على المرء في بيئته وكل ما يكتسبه ويتصرف به بعد ولادته في أبعاده التربوية والعلائقية، فإن اللغة ركن من أركانها الأساسية وموردا من مواردها الثرية، ويسجل السوسيولوجيون أن استلاب هذه اللغات الغريبة اليوم قد ذهب بشباب العصر كل المذاهب وتاهت بهم كل المتاهات:”…انخراط في عصابات الإجرام والمخدرات.. وشبكات الدعارة و”الدعشنة” والتطرف والإرهاب.. عنف غير مسبوق ضد المواطنين الأبرياء في الشارع.. وحتى في البيت ضد الفروع والأصول.. وجرأة غير مسبوقة في ممارسة الشذوذ وطقوسها الشيطانية.. ومن ذلك المناداة بالإفطار العلني والجماعي في رمضان، وكأن شبابنا لم يعد محصنا ضد أي شيء، وهكذا وحتى قبل أن يجد نفسه في ديار الغربة أو بين شباب المهجر، يستلب بعضهم في لغته ويتحلل من قيمه ويتخلى عن دينه وثقافته، بل وقد يعاديهما ويحاربهما في العالم الواقعي والافتراضي ويتزعم ضدهما المعارك والغزوات في عقر داره نيابة عن الأعداء وبالمجان”.
لقد وصلنا مرحلة من الغزو الفكري والاختراق الثقافي غير مسبوقة، خاصة مع انتشار العولمة المتوحشة وما يسمى بالفوضى الخلاقة والتي عنوانها البارز هو التحلل من القيم وازدراء الأديان..، مرحلة وكأن الأمة لم تعد فيها تجتمع على شيء أو تكاد،حتى كلياتها الخمس والمقاصد المعلومة من الدين بالضرورة،حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، الولاء والبراء وغيرها من مبادئ العقيدة وأحكام الشريعة، وإذا بالإخوة الأشقاء يشنون الحرب على الإخوة ويتحالفون ضدهم مع الأعداء، ويختلفون حول التطبيع مع الكيان الشيطان، ويسمون المقاومة تطرفا والحراك العربي من أجل التحرر والإصلاح فتنة..، وكل يوم يبتلعون لسانهم على مستوى اللغة حتى انتقلوا من تدريس بعض اللغات الأجنبية في مدارسهم إلى التدريس بها وعلى حساب لغتهم العربية التليدة، ومن يدري ربما تدينوا بها يوما بما عرب أو عجم؟ ولا يزالون رغم كل ذلك يدعون بكل وقاحة أن لغتنا العربية هي أجمل اللغات، صدقوا وهي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وعبادة الذكر وجلال الدعاء، وباعتبارها لغة الفكر والسلوك وليست لغة الكلام من أجل الكلام فحسب، وباعتبارها لغة الهوية والسيادة وليست لغة الاستلاب والذوبان المجاني في الآخرين، وأن اللغة العربية بهذه المعاني الجليلة والشاملة يمكنها أن تكون بل هي ولاشك حبل النجاة للطفولة والشباب بل حبل الأمن الروحي والثقافي والسلوكي للأمة ككل، اللسان وللإنسان.
ولكن ورغم كل شيء، فحقا وصدقا يبقى اللسان العربي هو اللسان العربي، لا يزال كما هو معروف عند الجميع، لسان صدق وحق ورفق وعدل، لسان فصاحة وبلاغة واشتقاق وبيان، ويمكنه ومن موقع القوة بحمولته وإسعافه للعلماء والباحثين والمبدعين..، أن يساهم في علاج مشاكل الطفولة والشباب ويضمن أمنهم الروحي والثقافي باعتباره:
- يحدد الهوية والمرجعية والانتماء،
- يضبط المفاهيم ويحدد حكمها حسب هذه المرجعية،
- يصحح السلوك وفق هذه المفاهيم وأحكامها،ويبين المقبول منها وغير المقبول.
يحل لنا العديد من الإشكالات التي طالما تخبطت فيها حياة الشباب حسب تصوراتهم وتصرفاتهم ومنها:
- مسألة العقل والنقل.
- مسألة القضاء والقدر.
- مسألة حب أو كره الآخرين والتعايش معهم.
- الموقف من ثقافة الآخر، ما يؤخذ منها وما يترك.
- أسبــاب التوتر والقلق ومداخل الهدوء والسكينة وحواملها.
- مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والسلوك المدني.
- مسألة تجاوز الذاتي والمحلي إلى الارتبـــاط بهموم الوطن والأمة.
- مسألة الإيجابية والتفاؤل والأمل وحب العمل وتشجيع المبـادرة والفعالية.
إن في لغتنا العربية الجميلة يا شباب ما يستحق التبني والحذق وتشجيع الاستعمال، وما به يتم الإتباع والإبداع والأنسنة والمؤانسة والإمتاع، وقد ورد عن ابن تيمية معنى قوله:”ما خالطت العربية لسان امرئ إلا أثرت عقله وخلقه ودينه إثراء قويا قد يبلغ أو يشابه ثراء رجال صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح”، أو كما يقول عملاق الأدب العربي والإسلامي مصطفى صادق الرافعي:”ما ذلت لغة قوم إلا ذل، سجن لغتهم في لغة غيرهم سجنا مؤبدا، والحكم على ماضيهم بالمحو والنسيان، وتقييد المستقبل في أغلاله، وهمومهم في همومه، وأمرهم في أمره”، أو كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه:”لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام(ولغة الإسلام)..فإذا ابتغينا العزة في غيره (أو غيرها) أذلنا الله”.