الصوم والتقوى ومجامع أوصاف القلب
إنما فرض الله علينا الصيام لنتصف بالتقوى، والتقوى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم محلها القلب(التقوى هاهنا) ثلاث مرات، ولذلك سنخصص حديثنا في هذه الخطبة عن بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته، ألا فاعلموا أن الإنسان قد اصطحبَ في خلقته وتركيبه أربعَ شوائب فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي الصفات السَّبُعية والبهيمية والشيطانية والربانية.
1ـ فهو من حيث سُلِّط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم.
2ـ ومن حيث سُلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشَّرَه(شدة الشهوة للطعام) والحرص والشَّبَق (رَغْبَةٌ جِنْسِيَّةٌ قَوِيَّةٌ للجِماعِ )وغيره.
3ـ ومن حيث أنه في نفسه أمرٌ رباني كما قال الله تعالى ” قل الروح من أمر ربي ” فإنه يدعى لنفسه الربوبية ويحب الاستيلاء والاستعلاء والتفرد بالرياسة والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها بل يدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم ويحزن إذا نسب إلى الجهل. بينما الإحاطةُ بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية وفي الإنسان حرص على ذلك.
4ـ ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويُظهر الشر في معرض الخير وهذه أخلاق الشياطين. وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة ـ أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية – وكل ذلك مجموع في القلب.( إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقد نزع من قلبه حظ الشيطان) فكأن المجموع في جلد الإنسان: خنزير وكلب وشيطان وحكيم.
فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعه وكَلـَبِه وحرصه. والكـَلْـبُ هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة واللون والشكل بل بروح معنى السبعية: التي هي الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه، وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر، والسبع يدعو بالغضب إلى الظلم والإيذاء.
والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويُحَسِّنُ لهما ما هما مجبولان عليه. والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم وإن عجز العقل عن قهرهم(أي الشيطان والكلب والخنزير) قهروه واستخدموه فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويُرضيَ الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير دون أن يشعر.
وهذا حال أكثر الناس ـ إلا من رحم الله ـ مهما كان أكثر همتهم البطنُ والفرجُ ومنافسةُ الأعداء،(ولذا شرع الصيام لكسر همة البطن والفرج) والعجب ممن ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره. فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه هو الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما.
ألم يقل سبحانه في سورة يس : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) فليراقب كل عبد حركاته وسكناته، وسكوتَه ونطقَه، وقيامَه وقعودَه، ولينظر بعين البصيرة فلو فعل لرأى نفسه ـ إن أنصف ـ ليس إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء ولكنه سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً ألم يقل سبحانه في سورة النحل عن الغافلين عن محاسبة نفوسهم و المقصرين في استخدام عقولهم (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) ويصير رَيْناً مهلكاً للقلب ومميتاً له لذلك قال سبحانه في سورة المطففين (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).
فأما طاعة خنزير الشهوة فتتولد منها صفات خبيثة متعددة: كالوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها. وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفات أخرى لا تقل خبثا: كالتهور والنذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعُجْبُ والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها. وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفات ثالثة أشد قذارة: كالمكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها.
ولو أن العبد عكس الأمر واستعان بالصوم وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية لاستقر في القلب من صفات الربانية الملازمة لليقظة القلبية: كالعلم والحكمة واليقين والعفة والقناعة والهدوء والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرافة والمساعدة وأمثالها، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفات حميدة كالشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها.
فالصوم الحقيقي يا عباد الله هو الصوم الذي تتولد منه يقظة القلب أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم”إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره و ينهاه ”، ومن كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ ، وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى ” ألا بذكر الله تطمئن القلوب ”. وقال سبحانه ” إنما يستجيب الذين يسمعون ” فقد ربط تعالى عدم السماع بالطبع بالذنوب فقال عز من قائل : “أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ”، كما ربط سبحانه السماع بالتقوى فقال تعالى ” واتقوا الله واسمعوا “، وربط التقوى بالتعليم الإلهي فقال”واتقوا الله ويعلمكم الله ”.
ذ. سعيد منقار بنيس