بن خلدون يكتب: السلوك المدني في المغرب: نحو استعادة القيم المجتمعية في زمن التحولات

لم يعد الحديث عن السلوك المدني في المغرب ترفًا ثقافيًا أو نقاشًا هامشيًا داخل النخب التربوية والاجتماعية، بل صار أولوية قصوى تفرضها وقائع يومية تعكس تراجعًا مقلقًا في منسوب القيم داخل الفضاء العمومي، وفي مقدمتها الفضاء التربوي. يتجلى هذا التراجع في سلوكيات العنف المتزايد، والاستهانة بالرموز المجتمعية من أساتذة وأطر إدارية، بل وحتى أفراد الأسرة، ناهيك عن النزوع المتنامي نحو الفردانية والتشظي الأخلاقي. وإذا كانت هذه الظواهر تدعو للقلق، فإن التحليل المتأني يكشف أنها نتاج تحولات عميقة تعيشها البنية الاجتماعية المغربية، تحولات تستدعي مقاربات استراتيجية تتجاوز المعالجة الأمنية الظرفية إلى بناء ثقافي وقيمي طويل النفس.

جذور الأزمة: من التغير البنيوي إلى التفكك القيمي

لفهم ما يعيشه المغرب من اختلالات على مستوى السلوك المدني، لا بد من استحضار التحولات البنيوية التي شهدها المجتمع في العقود الأخيرة. فقد أدت الهجرة القروية المكثفة إلى المدن، والتوسع العمراني غير المتحكم فيه، إلى تقويض الروابط التقليدية التي كانت تؤطر العلاقات الاجتماعية ضمن منطق التضامن والتقدير المتبادل. كما ساهمت العولمة الرقمية في خلخلة المرجعيات الثقافية للشباب، حيث صار الانتماء للقيم المحلية أضعف من الانجذاب إلى رموز القوة والتأثير التي تقدمها شبكات التواصل الاجتماعي. بل إن هذه الشبكات باتت، في غياب تأطير نقدي، مصدراً لتطبيع سلوكات العنف، والتنمر، والإثارة.

في هذا السياق، لم تعد المؤسسة التعليمية قادرة على لعب دورها المركزي في التنشئة الاجتماعية. فبالتوازي مع تراجع الهيبة الاعتبارية للأستاذ، تقلصت مكانة المدرسة كمجال لبناء الوعي الجماعي، وتحولت أحياناً إلى فضاء للتوترات اليومية. هذا التحول لم يأت من فراغ، بل ساهمت فيه عدة عوامل متداخلة: ضعف السياسات العمومية الموجهة للناشئة، هشاشة المحيط الأسري، قصور الإعلام العمومي في بناء نماذج سلوكية إيجابية، وغياب رؤية استراتيجية لدمج التربية على القيم في الحياة اليومية.

السلوك المدني بين التصور القانوني والواقع المجتمعي

يُفترض أن السلوك المدني يشكل الترجمة العملية للقيم المشتركة داخل المجتمع، مثل الاحترام، والتضامن، والانضباط، وتحمل المسؤولية. لكن الواقع الميداني يكشف أن هذه القيم لم تعد تلقى التقدير نفسه، خصوصًا في أوساط الشباب. فقد صار الانضباط مرادفًا للضعف، والاحترام علامة على البلادة، بينما يُنظر إلى الوقاحة والعنف باعتبارهما دليلاً على القوة والجرأة.

هذا الانقلاب في المنظومة القيمية لا يمكن تفسيره فقط بالتقصير في التربية أو غياب الردع القانوني، بل يجب قراءته ضمن تحولات أعمق، أهمها انهيار فكرة “القدوة”، سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو الفضاء العام. فحين تُسقط الممارسة السياسية والإعلامية رمزية المؤسسات، وتتراجع الثقة في العدالة والمساواة، يترسخ في وعي الناشئة أن السلوك المدني لا يعود بالفائدة، بل قد يكون عائقًا أمام تحقيق النجاح أو إثبات الذات.

حالات العنف في المدرسة: عرض لمرض مجتمعي

تشير الأحداث المتكررة لاعتداءات جسدية ولفظية على الأطر التعليمية إلى وجود أزمة ثقة عميقة بين المؤسسة التعليمية ومحيطها. فحين تُعتدى أستاذة في الشارع العام من طرف طالبها حتى الموت، أو يُضرب أستاذ داخل الفصل الدراسي، لا يمكن اعتبار ذلك سلوكًا فرديًا شاذًا، بل مؤشراً على هشاشة العلاقة بين الفاعلين التربويين والمجتمع. هذه الحوادث، وإن بدت معزولة في الزمان والمكان، تعكس في جوهرها أزمة اجتماعية مركبة، عنوانها فقدان الاحترام، وتآكل السلطة الرمزية للمدرسة.

وتكمن خطورة هذه الظواهر في أنها لا تقف عند حدود العنف المادي، بل تؤسس لنمط جديد من التفاعل داخل الفضاء المدرسي، تتراجع فيه سلطة التربية لصالح منطق “القوة”، ويتحول فيه الفصل إلى ساحة توتر دائم. وهو ما ينعكس سلباً على جودة التعلمات، ويضعف منسوب الثقة المتبادلة بين التلاميذ والمدرسين، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج جيل مأزوم معرفيًا، ومختل قيميًا.

مقاربات المعالجة: من الإصلاح القانوني إلى التحول الثقافي

إن مواجهة هذا التحدي تتطلب رؤية شمولية لا تكتفي بالحلول الظرفية، بل تؤسس لثقافة مدنية جديدة، يكون فيها السلوك المدني مكوناً عضوياً في جميع السياسات العمومية، من التعليم إلى الإعلام، ومن الأسرة إلى الجماعة المحلية. وأول ما يقتضيه هذا التحول هو إدماج التربية على القيم في المناهج التربوية بشكل منهجي، يتجاوز الدروس المناسبة إلى ممارسات يومية داخل المؤسسات التعليمية، تشمل تنظيم الفضاء، وتدبير الزمن، وآليات التواصل بين الفاعلين.

ثانيًا، من الضروري دعم الأسر عبر برامج للتوعية والمرافقة التربوية، خصوصًا في ظل تآكل الأدوار التقليدية للأسرة، وانشغال الآباء بتحقيق الكفاف اليومي. كما ينبغي تطوير الإعلام العمومي والخاص ليقوم بوظيفة التنشئة الثقافية، من خلال تقديم نماذج سلوكية إيجابية، والحد من البرامج التي تروج للرداءة والعنف والابتذال.

ثالثًا، يجب الاستثمار في الثقافة المدنية من خلال المجتمع المدني، خاصة الجمعيات ذات التوجه القيمي والإصلاحي. هنا تبرز أهمية الحركات الدعوية والإصلاحية، التي تملك من الرصيد الفكري والتجربة الميدانية ما يؤهلها للقيام بدور محوري في ترسيخ قيم الاحترام، والمواطنة، والانضباط، والعمل المشترك. غير أن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تجديد الخطاب، والانفتاح على الفئات الشبابية بلغة قريبة من واقعهم، ومن خلال شراكات مؤسساتية مع قطاعات التربية والشباب والثقافة.

استعادة المعنى في زمن الاضطراب

في زمن الرقمنة والانفجار المعلوماتي، صار الشباب المغربي يعيش في فضاء متعدد المعايير، تضيع فيه الحدود بين القيم المتعارف عليها والسلوكات الطارئة. من هنا، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في استعادة الانضباط داخل المدرسة، أو منع العنف عبر قوانين الزجر، بل في استعادة المعنى نفسه: معنى الاحترام، ومعنى التعايش، ومعنى المسؤولية. فبدون هذا المعنى، تظل القوانين حبرًا على ورق، وتظل المبادرات الإصلاحية محدودة الأثر.

إن إعادة الاعتبار للسلوك المدني في المغرب لا يمكن أن تنجح إذا اقتصرت على مؤسسات الدولة، بل تتطلب تعبئة شاملة، تشارك فيها المدرسة، والمسجد، والأسرة، والإعلام، والمجتمع المدني، من أجل بناء بيئة حاضنة لقيم العيش المشترك. كما أن هذه المهمة تحتاج إلى استحضار بعد الزمن، فبناء الثقافة لا يتم بين عشية وضحاها، بل يتطلب نفسًا طويلاً، وصبرًا استراتيجيًا، واستثمارًا في الإنسان قبل كل شيء.

خاتمة مفتوحة: نحو عقد أخلاقي جديد

أمام هذا الواقع المتغير، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة صياغة عقد أخلاقي جديد، يُعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته، ويمنح للمدرسة مكانتها الرمزية، ويُحصن المجتمع من التفكك القيمي. إن المغرب، وهو يراكم إنجازات على مستويات متعددة، لا يستطيع أن يواصل مسار التنمية دون قاعدة أخلاقية متينة، تُعيد للسلوك المدني اعتباره، وتجعل من القيم المشتركة لغة جامعة بين الأفراد والجماعات.

وإذا كانت التحديات كبيرة، فإن الفرص أيضًا متاحة، شرط أن نتحرك اليوم قبل الغد، وأن نضع القيم في قلب المشروع المجتمعي، لا على هامشه. حينها فقط، يمكن أن نحلم بجيل مغربي جديد، يؤمن أن الاحترام ليس ضعفًا، وأن العنف ليس شجاعة، وأن الكرامة تبدأ من سلوك يومي صغير، لكنه يغير كل شيء.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى