الدكتور محمد بولوز يكتب: كيف تجعل من ممارسة السياسة عبادة وقربة؟
حق لك أن تعتز باختيارك لطريق السياسة ومسالك المساهمة في تدبير الشأن العام أو مراقبة القائمين عليه، أو الاستعداد لذلك كله، حق لك أن تفخر باختيارك الصعب في الوقت الذي اختار فيه الكثيرون: التي هي أدنى، والتي هي أسهل، بالدوران حول ذواتهم والانهماك في همومهم ومصالحهم الشخصية القريبة، التي قلما يتعدى نفعها أو يعم خيرها محيطهم، لقد اخترت طريقا جليلا وعظيما من طرق الإصلاح وجلب المنافع ودفع المضار، لو كان الناس يفقهون ولو كانت سبل السياسة في وطننا سالكة الى أخر مداها، ولكن ما لايدرك كله لا يترك جله وأمرنا بالتسديد والمقاربة وما نلناه وقدرنا عليه فيه خير.
اخترت طريق المصلحين ومقاومة المفسدين، بما يعني اصطفافك مع الطبقة الأولى الممتازة من الناس، أي طبقة الصالحين المصلحين، وتصديك لأسوأ الطبقات الفاسدة المفسدة، وقررت أن لا تكون صالحا في نفسك فقط، وإنما لتكون ذلك الصالح المصلح، الآمر بالمعروف في الشأن العام والناهي عن المنكر في تلك الدوائر، والساعي لامتلاك نصيب من المسؤولية لتنزيل مشاريع الخير في الناس وحماية أموالهم وتنميتها في أوجه الصالح العام، وتخفيف معاناة العباد، وتحقيق ما تيسر من العدالة الاجتماعية والعدالة في الأحكام والسلطة والمساواة أمام القانون، وتحقيق الطموحات المشروعة في التقدم والرقي في مختلف مجالات الحياة الممكنة.
إنه أفق سامق، له مكانة عظيمة في حياة الناس، بل ومكانة أعظم في ميزان الله، فيه قبس من منهج شعيب عليه السلام وهو يواجه فساد الاقتصاد وتطفيف الميزان، وقبس من دعوة لوط عليه السلام وهو يواجه الفساد في الأعراض، وقبس من حياة يوسف عليه السلام وهو يخطط لإخراج العباد من الهلاك المحقق، وقبس من حكم سليمان عليه السلام وهو يقيم أركان العدل في دولة بني إسرائيل. وفيه إحياء لكثير من سنن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام في الإصلاح والقائل:( لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها) والقائل أيضا:(من غش فليس منا) والمنبه ذوي المسؤوليات العامة على حرمة الهدايا عليهم، فقال:( هدايا العمال غلول ) والموجه المومنين إلى التنافس في رفع الظلم عن الناس وتنفيس الكرب ومواساة الأرملة واليتيم، وهو من علم عمر رضي الله عنه كيف يشفق على نفسه أن يحاسب على بغلة لم يسو لها الطريق، والحال عنده سيكون أعظم عندما يفكر في أحوال بني الإنسان..
أخي السائر في دروب السياسة، هكذا يجب أن يكون المنطلق عندك، والبداية الأولى في ضميرك وقلبك، وأنت تأخذ في غمار العمل السياسي، وتخوض في بحر الاهتمام بالشأن العام، والمهم بعد ذلك أن تصاحب هذه المعاني حتى تدخلها معك القبر، ويرافقك ابتغاء مرضاة الله في ذلك كله إلى مثواك الأخير، واعلم أن إبليس عدو متربص، أفسد على بعض أهل القرآن تلاوتهم وقراءتهم وعلى بعض المنفقين أعطياتهم، وأفسد على بعض الباذلين دماءهم وجهادهم، بما أدخل عليهم من مقاصد السمعة والرياء.
فهذه حسنات صافية في الظاهر، دخل عليها الفساد من جهة المقاصد والنيات، فكيف بمن يسير في درب السياسة، يجمع في طريقه كبائر وموبقات ومكروهات وولغ في الشبهات؟ فماذا وراء كدك وجهدك أيها المناضل السياسي إذا كان حصادك: غيبة ونميمة ومكرا وكيدا وخديعة، وإفساد علاقة وسوء ظن، وتول أمر بغير حق، وتمكين الأدنى في الكفاءة، وحرمان الصف والشأن العام من الأقوى والأحكم لمجرد هوى أو عصبية، وتضييع مشروع وبث يأس وتنفير عباد من السياسة والسياسيين؟
أيها السائر في درب السياسة، لا يجوز أن يكون همك فقط أن تسير، وإنما الأهم من ذلك، كيف تسير؟ وكيف تصل لرضوان ربك ودخول جنته والنجاة من ناره وغضبه؟ فكم من السائرين تاهت بهم السبل، وضلوا الطريق وتشعبت بهم الأهواء وضاعوا في دروب الشهوات غير المشروعة الظاهرة والباطنة. ولعل من يدرك الخطأ في المسير، يرجى له الانتباه وتصحيح المسار. أما الذي لبس عليه الأمر، وعلت قلبه غشاوة، وعكر الضباب أو السراب بصره، فرى سوء عمله حسنا، وخداعه ومكره وتدليسه وتلبيسه شطارة وذكاء وسياسة ومصلحة، ورأى غيبته إخوانه وانتهاك حرمتهم وكرامتهم بغير حق نصحا، ونميمته إصلاحا وإبراء للذمة، وتوليته وترشيحه من ليس الأفضل والأحسن والأقدر ممن يوجد في الجمع العام أمرا هينا في الدين… فهو على خطر عظيم، يخشى عليه أن يدخل في قوله تعالى:” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”.
وكفى بالأمر خطرا أن يحوم المرء حول زمرة من قال الله فيهم” وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ،هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ”، وكفى غفلة عن قول رب العزة:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” والغفلة أيضا في ظل التنافس على المسؤوليات عن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم لأبي ذر رضي الله عنه في أمر تولي المسؤوليات : إنها أمانة , وإنها يوم القيامة خزي وندامة , إلا من أخذها بحقها , وأدى الذي عليه فيها “
وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم “ : من ولي من أمر المسلمين شيئا , فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله” وفي رواية : “من قلد رجلا عملا على عصابة , وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه , فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين } رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روي ذلك عنه .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين .
يقول ابن تيمية في السياسة الشرعية” وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات , من نوابه على الأمصار , من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان , والقضاة , ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار , وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات , وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين .
وعلى كل واحد من هؤلاء , أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده , وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين , والمقرئين , والمعلمين , وأمير الحاج , والبرد , والعيون الذين هم القصاد , وخزان الأموال , وحراس الحصون , والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن , ونقباء العساكر الكبار والصغار , وعرفاء القبائل والأسواق , ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون .
فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين , من هؤلاء وغيرهم , أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع , أصلح من يقدر عليه , ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية , أو يسبق في الطلب .
بل ذلك سبب المنع , فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية , فقال : إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه .
وقال لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة , فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها , وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه } أخرجاه في الصحيحين”.
وإن من يحضر الجموع العامة للعمل السياسي، ويطلب منه أن يختار ويرشح الأنسب للمهام والمسؤوليات داخل الهيأة السياسية أو خارجها، لا يبعد عن هذه المعاني، فقد يكون منهم من يتولى بعد حين إدارة البلديات أو تسيير الوزارات، وهو في اختياره وترشيحه خائن أو أمين.
وأنت أيها المواطن بتصويتك على الاصلح من الهيئات والاحزاب والاشخاص، تكون قدمت لنفسك صدقة جارية تنفع بها نفسك وتنفع بها وطنك وترفع بها شأن أمتك وتكون لك ذخرا عند ربك، فما من حسنة يجريها الله على يد من اخترتهم الا ولك منها نصيب وعندك فيها أجر وثواب، واحذر من السيئات الجارية أيضا باختيار الاسوء في الهيئات والاحزاب والاشخاص، فاليوم عمل وقد لايكون معه حساب وغدا حساب ولا عمل، فتبصر ما تخطه يمينك على الرمز المختار وما تضعه يمناك في الصندوق، فليس في الدين عبث انما أنت بصدد جمع حسنات أوسيئات.
بقلم د.محمد بولوز
-*-*-*-*-*
ملحوظة: مقالات رأي المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة الناشرة