الدعاة إلى الله، والمنزلة بين المنزلتين !..- بنداود رضواني
في الناس- اليوم – لفيف معتبر ممن استجابوا لعقيدة التوحيد، و تشربوا خصائص الشريعة الإسلامية، منهم زيد وعمرو وشعيب و روة ونفيسة…، فهؤلاء وغيرهم أدركوا يقينا جوهر هذا الدين ونفاسته، وأحبوا مبادئه وقيمه.
سائقهم إلى ذلك – بعد توفيق الله – دعاة ربانيون نذروا أوقاتهم وداسوا حظوظهم النفسية بأقدامهم في سبيل الدعوة إلى الله و التبشير بجلال الرسالة المحمدية وعظمتها…
ومن الواضح أن مبدأ الدعوة إلى الله لم ينفك عن جملة القيم والمبادئ التي تشربتها قلوب هؤلاء ووعتها عقولهم عبر الجهود الدعوية لتلك الزمرة من الربانيين…
لكن يبدو في الحاضر أن زيد و عمرو ومروة و…..قد أخلوا في ساحة الفعل بواجب الوفاء لهذا المبدأ، وتحللوا من ضرورة النهوض به والقيام بأمره…، الشاهد على ذلك ألا أثر لهم في ساحة البلاغ، ولا بصمة لهم بين الدعاة لحظة العمل.
ومع ذلك تصدح أصواتهم بالتأكيد في المجالس والمنتديات على ضرورة الدعوة وأهميتها، والسبل الكفيلة لاستعادة بريقها وألقها…؟؟
لذا فالغالب على واقع هؤلاء الناس علاقتهم الشكلية بالدعوة إلى الله، ورابطتهم الصورية بالدعاة.
فلا هم إلى منزلة الدعوة ينتسبون، ولا بمنزلة الخوالف يرضون !!!…فهم مع الدعوة بقلوبهم لا بفعالهم، بمشاعرهم لا بحركتهم ونشاطهم..
إنهم في واقع الأمر مذبذبين في العمل لهذا الدين، وغير مبالين بتبليغه…، لا هم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
إنهم في منزلة بين منزلتين !!!…
منزلة لا كما تعارف عليها أهل الكلام، بل المقصود تلك المنزلة الكائنة بين منزلة السمو بالإنسان إلى الأعلى ومنزلة الإخلاد إلى الأرض. بين منزلة الإيثار ومنزلة الأثرة، بين منزلة البذل ومن منزلة البخل والتقتير….
واليوم بين ظهرانينا مدنية مادية اجتهدت في شد الإنسانية أكثر إلى الأرض، وأفلحت في إحكام تقييدها بمزيد من أغلال المادة وسلاسلها.. فكانت المحصلة أن النفوس قد أشربت هوسا استهلاكيا لم يسبق له مثيل، أما القلوب والأبدان فقد نال منها الوهن والعجز والكسل…
وحتى بين الدعاة عدد ليس بالقليل ممن أخلد إلى الأرض وركن إلى مباهجها، فأصاب الغبش بوصلته الرسالية، وتراكمت على مبادئه وقناعاته غَبْرَة المادة، حتى باتت رؤيته لمشاكل الإنسانية ملتبسة، والسبل إلى حلها ممتنعة !!!…
ومهما قيل عن رجل سورة الأعراف الذي انسلخ من الآيات التي جاءته من ربه، أكان بلعام الإسرائيلي، أم أمية بن أبي الصلت الثقفي، تبقى القصة كاشفا مهما لأسباب سقوط الدعاة، وفي نفس الآن وصفة وقائية من الأمراض التي قد تنال منهم في طريق الدعوة المحمدية، يقول تعالى ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )، الأعراف/ 175- 176.
فالإنسلاخ من الهدايات – إذن – هو أساس الآفات التي تلاحق المرء في سيره إلى الله، أما مطاردة الشيطان له، والإخلاد إلى المباهج المادية، واتباع الهوى، فكلها نتيجة لحالة الإنسلاخ هاته. يقول صاحب التحرير والتنوير: ” والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يُسلخ عنه جلده، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده، واستعير في الآية للإنفصال المعنوي، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية.”
والحال أن في الدعاة من هو معافى – بحمد الله – هذه الساعة من الإنسلاخ من الآيات، لكن اختياره للمنزلة بين المنزلتين قد يتدرج به رويدا رويدا الي منزلة بلعام أو أمية بني أبي الصلت الثقفي، بل قد يفضي به إلى المنزلة الخسيسة للكلب، – وهذا هو المحذور – الذي يلهث في جميع أحواله وأوقاته، فإن تحمل عليه شيئا يلهث، أو تتركه بلا حمل – للأسف – يلهث !!!…