الخطاب المعاصر” بوصفه أداة تطبيع جديدة: تحليل نقدي في ضوء الإبادة الجماعية – حسام الشعبي

في ظل الأوضاع الحالية التي يشهدها العالم، وما يعيشه إخواننا في غزة العزة من واقع مرير بلغ الجنون، وفي ظل نفاق غربي ومجتمع دولي فشل في كبح جماح الكيان الصهيوني وإيقافه عن مواصلة إبادة الأبرياء، شهدنا في الخطاب العام نموذجا جديدا اكتسى طابعا أخلاقيا في مظهره، وتحكميً في واقعه، بدأ يُصطنع بشكل تدريجي، جُرِّدت فيه الأخلاق من بعدها الإنساني والديني، وفُتحت على مصراعيها لتصبح خاضعة للمصالح المخفية، وفاقدة لأبعادها الأصيلة.

هذا التغيير في المفهوم لم يكن مجرد “إفراغ” للقيمة الأخلاقية من محتواها، بل حوّلها إلى أداة تتقاطع مع كيفية صناعة “الصنمية” و”الصنم” الذي يصنعه صاحبه ويعرضه للعبادة بالشكل والقياس الذي يرتضيه، فتصبح أي محاولة للاعتراض عليه وكأنها اعتراض على “الإله” نفسه، ليُصبح بذلك أي رأي مخالف لهوى الصانع غير أخلاقي يستوجب الردع.

وبهذا، فُتحت الأبواب لتبرير السرديات المضللة والتطبيع معها، متخذةً من “حرية الرأي”، و”حرية الاختلاف”، و”الهدوء في النقاش” أدوات لإسكات القول الحق، والصدع به، والغضب لله والوقوف ضد المنكر، والظلم والحيف. ورفض هذه السرديات جريمة أخلاقية غير مقبولة.

إن “الخطاب الأخلاقي” المغشوش الذي يُستعمل اليوم لم يعد مجرد إطار ناظم للمواقف أولًا ثم للنقاشات ثانيًا، بل تحول إلى مقصلة يُحاكم عليها كثير من التعبيرات الإنسانية الغاضبة والرافضة للظلم والحيف، حيث أصبحت الأخلاق الحقيقية – التي من المفترض أن تنتصر للعدل والكرامة – وسيلة لقمع الانفعال المشروع، وتقييد الرفض الغاضب، وتجميد الموقف الأخلاقي الحقيقي لصالح خطاب مفرغ من معانيه.

وفي هذا السياق، تُمرر مجموعة من الخطابات والسرديات على أساس أنها آراء ووجهات نظر يمكن فيها الاختلاف ضمن دائرة الرأي والرأي الآخر، ويجب الالتزام فيها بالضابط الأخلاقي. وعلى سبيل المثال لا الحصر: التطبيع مع الكيان، حيث يتم تحميل المقاومة المسؤولية المباشرة فيما وقع لغزة، وغيرها من السرديات الناقصة والمجتزأة من سياقها أو المتناسية لحقيقة الكيان الصهيوني. إن الاعتبار الذي يجعل من هذه السرديات آراء قابلة للنقاش من منطق مقبول ويُوجب التعامل معها لا الاعتراض عليها تحت غطاء أخلاقي، يضعنا في الواقع أمام نوع من “الضبط الأخلاقي” يُفرغ القيمة من مضمونها ويضرب في عمقها، ولا يحترم الحقيقة ولا ينتصر للضحية والمظلوم، بل يتقاطع بوعي أو بدون وعي مع سردية مرتكب الإبادة.

وهنا نقدم مثالًا في المسألة الأخلاقية، ومن خلاله يمكن إسقاطه على باقي السرديات: هل من الأخلاق أن نُطبع مع كيان قتل أكثر من 61,700 فلسطيني، منهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال الذين يشكلون حوالي 65% من الضحايا، وفقد أكثر من 23,000 طفل واحدًا أو كلا والديهم، وأصاب أكثر من 146,000 جريح بجراح دائمة؟ هل من الأخلاق أن نُطبع مع كيان خلف نزوح أكثر من 1.9 مليون فلسطيني داخل قطاع غزة، وجوّع ملايين آخرين حتى الموت بسبب الحصار، مما أدى إلى وفاة أعداد كبيرة نتيجة نقص الغذاء والدواء؟ هل الرأي الداعي للتطبيع مع هذا الكيان يُعتبر رأيًا أخلاقيًا؟ وهل طرح هذه المسألة ضمن “الرأي والرأي الآخر” مسألة أخلاقية أصلًا؟

إن الخضوع للأمر تحت سطوة صنم الأخلاق المزيفة “قسرا” أو “طوعا”، أي بالتطبيع مع السرديات غير الأخلاقية كآراء يمكن احترامها وتقبلها وتستلزم ضمنيا تقديرا ومناقشة “بهدوء” و”تحضر”، يجعلنا نقع في خطيئة أخلاقية غير إنسانية، وهي إفراغ النقاش من مشاعره الأساسية: الغضب، الحزن، والصدمة. بمعنى: يُطلب من الضحية أو الذي يناصرها أن يناقش بهدوء ما لا يمكن مناقشته بهدوء. وهنا يجب أن نتساءل: كيف يمكن مثلًا أن نتحلى بالهدوء أمام مشاهد القصف، والقتل، والمجازر؟ أي أخلاق تلك التي تطالب من يشهد الإبادة بأن يكون مهذبًا أمام من يروّج لسرديات تُخفف من فظاعتها أو تبررها بشكل غير مباشر؟

هذا الصنم الذي ينتج أخلاقا مزيفة سائلة لا يُستخدم فقط في إسكات الغضب، بل في مسخ وإعادة تشكيل المشهد بالكامل. إن غاية هذا الخطاب هو سحب أي موقف إنساني أو ضميري من النقاش، وتحويله إلى مسألة ترف فكري جدلي، وحصره في “قواعد الكلام” و”آداب الحوار”، بحيث لا يُسمح للألم أن يُقال كما هو كائن، ولا للغضب أن يُعبَّر عنه بما يوازي الجرائم، ولا للعدالة أن تُطالب بحقها، ما لم يكن ذلك بلغة ناعمة خاضعة لمنظومة الأخلاق الشكلية العلمانية بمفهوم المفكر عبد الوهاب المسيري: “مفرغة الروح، المشاعر، الضمير، أي أخلاق دنيوية مجردة”.

هذا “الخطاب الأخلاقي” الذي يتم ترويجه يتقاطع مع ما أشار إليه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، حين اعتبر أن الاستشراق بحلته الجديدة بات مرادفا للخيانة. كذلك اليوم، يُراد لمفهوم “الخطاب الأخلاقي المغشوش” أن يُستخدم للتطبيع مع الخيانة: خيانة الحقيقة، وخيانة العدالة، وخيانة المقاومة، عبر تقديم الإبادة كنتاج من صنع أو مساهمة الضحية، وشيطنة الذي يدافع عن الضحية، والتطبيع مع القتلة كآراء أخلاقية ينبغي احترامها. وعندما ترتفع أصوات ترفض هذا المنطق، وتفضح هذا التلاعب، تُوصم فورًا بأنها أصوات “متطرفة” أو “غير أخلاقية”. ويصبح الرفض غير أخلاقي، والغضب غير مقبول، والكلمة الصادقة إزعاجًا “للمجتمع المتوازن”. ليُصنف الضمير الحي عدوًا للنقاش والأخلاق.

لذلك من الضروري أن يعي القارئ أن هذا الخطاب الأخلاقي المشوَّه قد يبدو بريئا، لكنه يُفضي في كثير من الأحيان إلى التواطؤ مع الظلم، ويُخدر الضمير عن مقاومة الإبادة، من خلال استمرار معادلة الجاني والضحية المقلوبة. فلا بد من تخليص جوهر الأخلاق من هذه السطوة كقوة مقاومة، لا كغطاء للتواطؤ، بقصد أو بدون قصد.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى