الحرب الكارثة: حزيران 1967 – محسن صالح
تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة والخمسون لحرب حزيران/ يونيو 1967، التي مثلث أحد أكبر الكوارث والمآسي في تاريخ الفلسطيني والعربي الحديث. ونقف في هذا المقال على بعض المحطات المتعلقة بهذه الحرب.
الاتجاه نحو الحرب:
لم يكن الكيان الإسرائيلي سعيداً بمساحة الأرض التي اقتطعها من فلسطين في حرب 1948، وكان يرغب في المزيد من التوسع لفتح الباب بشكل أكبر أمام الهجرة والاستيطان اليهوديين. كما كان يفتقد الشعور بالأمان في حدوده مع البلدان العربية التي يبلغ طولها 981 كيلومتراً، وكانت بعض المدن الساحلية تبعد حوالي 15 كيلومتراً عن الحدود مع الضفة الغربية مما يسهل ضرب العمق الإسرائيلي.
ومن جهة أخرى، فإن الإعلام العربي، وخصوصاً المصري الناصري، كان يبالغ في الإمكانات العسكرية العربية، ويَعد الجماهير العربية التي كانت تنتظر بصبر وحماس بتحرير فلسطين. غير أن الإستراتيجية العسكرية المصرية ظلت منذ حرب 1956 وحتى 1967 إستراتيجية دفاعية وليست هجومية، بخلاف ما كان يتحدث عنه الإعلام المصري صباح مساء. وحتى الخطة الدفاعية “قاهر” التي وضعتها القيادة المصرية في كانون الأول/ ديسمبر 1966 لم يطبق منها إلا جزء بسيط، إذ إن القسم الأكبر من ميزانية الدفاع كان يذهب إلى اليمن فلا يبقى إلا القليل لتحصين سيناء.
ولم تكن الأوضاع الداخلية العربية ولا العلاقات العربية- العربية لتبعث على السرور، فقد عانت الشعوب العربية من أزمات فقدانها للحريات السياسية، ومن الفساد السياسي والاقتصادي، ومن الإعلام الموجه، وعاش عبد الناصر هاجس ملاحقة الإسلاميين وضربهم، وخصوصاً الإخوان المسلمين. وتم تقديم البديل الأيديولوجي الاشتراكي- القومي كمسار للنهوض العربي، غير أنه لم ينجح في خطط التنمية، ولا في تحقيق أساس نهضوي عربي، ولا في تفجير طاقات الأمة بشكل يتوافق مع عقيدتها وتراثها وثقافتها. كما استنـزف الجيش المصري والميزانية المصرية في حرب اليمن منذ 1963.
وقد صادق الرؤساء والملوك العرب في كانون الثاني/ يناير 1964 على تشكيل القيادة الموحدة لجيوش البلدان العربية، وتم تعيين الفريق المصري علي عامر قائداً عاماً، لكن الخلافات العربية منذ 1966 عطلت عمل هذه القيادة.
بدأ الكيان الصهيوني تصعيد الأوضاع قبل عام من الحرب، فهاجم قرية السموع قرب الخليل في الضفة الغربية، في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1966. كما حدث تسخين متبادل على الجبهة السورية وتواترت الأخبار عن حشود إسرائيلية على الحدود السورية، خصوصا في أوائل أيار/ مايو 1967.
وأعلنت مصر، وفق اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا، عن عزمها الدخول في الحرب منذ أول دقيقة إذا ما تعرضت سوريا للهجوم. وتبع ذلك إجراء مصري بطلب سحب قوات الأمم المتحدة عن خطوط الهدنة مع الكيان الإسرائيلي، فانسحبت في 23 أيار/ مايو 1967. وأغلقت مصر في 23 أيار/ مايو مضائق تيران (خليج العقبة) في وجه الملاحة الإسرائيلية، مما كان يعني عملياً أن مصر تجهز “لمعركة المصير” مع الكيان الإسرائيلي. غير أن الفرقتين العسكريتين اللتين حركتهما مصر إلى سيناء لم تكونا تكفيان بالكاد للدفاع عن الحدود المصرية، فضلاً عن تحرير فلسطين.
وبتعبير آخر، فإن الإجراءات التي كانت تتخذ على الأرض لم تكن متوافقة مع المواقف السياسية الحادة ولا التصريحات الإعلامية النارية. وكرر الرئيس المصري قبل الحرب بأيام استعداد بلاده للحرب قائلاً: “إذا أرادت إسرائيل الحرب، فأهلا وسهلاً”. وقال: “لن نتركهم ليقرروا الوقت ويقرروا المكان… علينا أن نستعد لننتصر… وقد تمت هذه الاستعدادات… ونحن على استعداد لمواجهة إسرائيل”.
وكانت الولايات المتحدة تعلم تفصيلات الهجوم الإسرائيلي المرتقب، والذي أعطته الضوء الأخضر، وأسهمت في تضليل الجانب المصري حول الاستعدادات الإسرائيلية، واستطاعت الحصول على تعهدات مصرية بألا تكون مصر البادئة في الحرب. بل وصل الأمر بعبد الناصر إلى أن يعلن بنفسه: “نترك المبادأة والضربة الأولى لإسرائيل”، وبذلك ضمن الكيان الإسرائيلي أن يكون صاحب الضربة الأولى. وقدمت الولايات المتحدة ضمانات لـ”إسرائيل” بحمايتها إذا ما تعرضت للخطر، كما وفّرت لها المعلومات اللازمة من خلال وسائلها الاستخباراتية والأقمار الصناعية.
أما الاتحاد السوفييتي الذي كان يُعدُّ حليفاً لمصر، فإنه ضغط أيضاً على مصر بألا تكون البادئة في الحرب، ولم يساعدها في الحصول على المعلومات اللازمة عن التحشدات الإسرائيلية.
كانت هناك قناعات كافية لدى الإسرائيليين والأمريكان والروس بأن عبد الناصر لا يريد الحرب، بل وغير مستعد فعلياً لها، على الأقل من خلال حساب تحركات الجيش المصري واستعداداته. لقد كان قرار الحرب إسرائيلياً وبغطاء أمريكي.
مسار الحرب:
بدأت “إسرائيل” الحرب صباح 5 حزيران/ يونيو 1967 بقصف تسعة مطارات مصرية على شكل موجات متعاقبة، بين كل موجة وأخرى عشر دقائق، وخلال ثلاث ساعات (45:8 صباحاً – 00:12 ظهراً) كان قد تم تدمير 80 في المائة من الطيران العسكري المصري وهو قابع على المدرجات دونما حركة.
ويشير حسين الشافعي، نائب الرئيس المصري في ذلك الوقت، إلى وجود “مؤامرة” أو “خيانة” على مستوى عالٍ في الجانب المصري. ويدلّل على ذلك بأنه رأى بنفسه الطائرات العسكرية المصرية المدمرة وهي مصفوفة بجانب بعضها وكأنما كانت معدة للتدمير، حسبما ذكره في حديثه لبرنامج شاهد على العصر الذي بثته قناة الجزيرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1999.
وعلى أي حال، فقد تم إخراج سلاح الجو المصري من المعركة منذ الساعات الأولى، كما تم تدمير معظم سلاح الطيران السوري والأردني بالطريقة نفسها، ومنذ الساعات الأولى للحرب مع الأردن وسوريا. وبذلك فقدت الجيوش العربية غطاءها الجوي، وأصبحت وحداتها العسكرية البرية ودباباتها ومدرعاتها فريسة سهلة للطيران الإسرائيلي.
وقد تمكنت القوات البرية الإسرائيلية منذ ظهر 5 حزيران/ يونيو من اختراق الحدود المصرية، وتغلبت على المقاومة المحدودة التي واجهتها في غزة ورفح وخروبة وأبو عجيلة وبير جفجافة وغيرها، وتقدمت باتجاه قناة السويس. وفي الساعة الثامنة من مساء اليوم الثاني للمعركة (6 حزيران/ يونيو) أصدر القائد العام للقوات المصرية عبد الحكيم عامر أمراً بالانسحاب من سيناء، على أن يتم خلال ليلة واحدة!!
وأعلنت مصر مساء 7 حزيران/ يونيو قبولها لوقف الحرب، وأبلغته إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بينما استكملت “إسرائيل” احتلالها لسيناء في 8 حزيران/ يونيو 1967.
وفي الجبهة الأردنية بدأت المعارك في 5 حزيران/ يونيو بعد أن دمرت الطائرات الإسرائيلية 32 طائرة هوكر هنتر (هي كل سلاح الطيران الأردني)، في مدرجاتها في مطاري عمّان والمفرق. وحدثت معارك في مناطق القدس وجنين وقباطية والخليل، ومع مساء 6 حزيران/ يونيو كانت الدفاعات الأردنية قد انهارت، وصدرت الأوامر بالانسحاب إلى شرق الأردن. وفي 7 حزيران/ يونيو كان الكيان الإسرائيلي قد أنهى احتلاله للضفة الغربية، بما فيها شرقي القدس.
أما المعارك على الجبهة السورية، فبدأت في 9 حزيران/ يونيو بعد فراغ القوات الإسرائيلية من جبهتي مصر والأردن، وانتهت في 10 حزيران/ يونيو باحتلال الصهاينة الجولان السورية. وكان ذلك صدمة كبرى لما تتمتع به الجولان من مزايا إستراتيجية وإمكانات تحصينية هائلة بوصفها منطقة جبلية، ولأن القيادة السورية كانت تتوعد الصهاينة بمصير أسود إذا اندلعت الحرب، بل وصل الأمر بإعلامها حدّاً جعل أحد أهازيجه تقول إن طائرات الميغ “تتحدى القدر”، بينما ظهر مقال في افتتاحية مجلة جيش الشعب السورية في 25/4/1967 يدعو إلى “خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد… الذي يؤمن أن الله والأديان… وكل القيم التي سادت المجتمع السابق، ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ”!!! لقد كانت الاستهانة بعقيدة الأمة وتراثها إشارة إلى حالة الخواء وضعف إرادة القتال التي يعاني منها هؤلاء.
نتائج الحرب:
شملت خسائر القوت المصرية حوالي 10 آلاف من الشهداء والمفقودين، وأُسر 5,500 آخرون، ودُمرت 80 في المائة من أعتدة الجيش المصري بينها 800 دبابة، و450 مدفعاً، و10 آلاف مركبة، و305 طائرات (من أصل 360 طائرة).
وخسرت القوات الأردنية 6,049 شهيداً و792 جريحاً و150 دبابة، وخسرت القوات السورية حوالي ألف شهيد و560 أسيراً و60 طائرة (من أصل 120 طائرة) و70 دبابة، كما استولى الصهاينة على 150 دبابة.
وبلغ عدد قتلى القوات الإسرائيلية حسب المؤرخ الإسرائيلي حاييم هيرتزوج 764 قتيلاً، منهم 338 على الجبهة المصرية و285 على الجبهة الأردنية و141 على الجبهة السورية. وبلغ عدد الجرحى الصهاينة (حسب الموسوعة الفلسطينية) حوالي 800 على الجبهة المصرية، و1,453 على الجبهة الأردنية، و306 على الجبهة السورية. كما خسر الصهاينة 26 طائرة قتال و10 طائرات نقل على كل الجبهات.
أما أبرز نتائج حرب 1967 فكانت:
- احتلال “إسرائيل” لما تبقى من فلسطين أي الضفة الغربية (5,878 كم مربع)، وقطاع غزة (363 كم مربع)، واحتلالها لسيناء المصرية (61,198 كم مربع) والجولان السورية (1,150 كم مربع)، ليصبح مجموع الأرض التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني 89,359 كم مربع بعد أن كان يسيطر على 20,770 كم مربع (الأرض المحتلة 1948) أي إنه زاد المساحة التي يسيطر عليها بنسبة 330 في المائة.
- تشريد نحو 330 ألف فلسطيني.
- سيطرة الكيان الإسرائيلي على منابع مياه الأردن، وفتح مضائق تيران وخليج العقبة للملاحة الإسرائيلية.
- تشكيل الكيان الإسرائيلي خطوط دفاع جديدة، وتوفير عمق استراتيجي يَسهُل الدفاع عنه بشكل أفضل.
- فرضُ احتلال جديد للأراضي العربية، جَعَلَ هدف العرب فيما بعد استرجاع هذه الأراضي المحتلة سنة 1967، وليس تحرير فلسطين المحتلة سنة 1948.
- تدمير القوات العسكرية لمصر والأردن وسوريا.
- انكشاف ضعف القيادات العربية، وانعدام التنسيق فيما بينها، وعدم جديتها في تحرير فلسطين.
- ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قرّرت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي، وبروز حركة فتح وهيمنتها على الساحة الفلسطينية.
وأخيراً، فقد كانت هذه هي المعركة الكارثة التي انتظرتها الجماهير العربية بشوق وشغف مدة 19 عاماً، وصحت على هول الصدمة التي نبهتها إلى حجم التضليل والخداع الذي كان يمارسه الإعلام العربي وقياداتهم السياسية.