الحج رحلة سلام وفرصة للصلح مع الله

الحجُّ هو الشعيرة الرابعة في الإسلام، بل إن الحج هو آخر ما فُرِضَ في الإسلام من عبادات، وكانت فرضيَّته في السَنة التاسعة من الهجرة، على أرجح الأقوال، والحج رحلةٌ فريدةٌ في عالم الأسفار، إنها رحلةٌ إلى الله، إذا كانت رحلات الأرض من أجل التجارة، أو من أجل المُتْعَة، أو من أجل العمل، فإنَّ الحجَّ رحلةٌ إلى الله ورسوله .

 إن الحجَّ هو زيارةٌ للبيت – بيت الله الحرام – الذي تتجه إليه في اليوم خَمْسَ مرَّات، إن الحجَّ هو طوافٌ حول هذا البيت، إن الحجَّ وقوفٌ بعرفة .

 وفي الحج معانٍ كثيرة ؛ الحج قبل كل شيء عبادة يجب أن تؤدَّى، أعرفت مغزاه أو لم تعرف، أفهمت حكمته أو لم تفهم، أوضعت يدك على جوهره أم لم تضع ، الحجُّ عبادة ، والحج فريضة، ولكن لو دقَّقنا في معاني الحج لوجدنا أن للحج حِكَماً عُظمى، وغايةً جُلَّى ، من هذه  الحكم ، من تلك الغايات أن الحج فرصةٌ للصلح مع الله . قد يتيه الإنسان في دروب الحياة ، قد تزلُّ قدمه ، قد ينحرف، قد يقصِّر، قد يُخالف، قد يعصي، قد ينغمس في ملذات الحياة، قد تشغله هموم المعاش، يأتي الحج ليكون فرصةً ثمينة للصلح مع الله .

أليس الله في كل مكان ؟ ولكن الله سبحانه وتعالى حينما يقول لك : تعالَ إليّ، أي تفرَّغ لعبادتي، ترك الوطن، وترك الأهل، وترك الأولاد، وترك العمل، وترك مباهج الدنيا هو في حقيقته تفرُّغٌ كاملٌ لله عزَّ وجل، فمن أجل أن يصحَّ هذا الصلح مع الله، يجب أن تزال كل العقبات، يجب أن تسقط كل الأقنعة، المال قناع، والوجاهة قناع، وبيت المرء قناع، وأهله قناع، فمن أجل أن يصحَّ الصلح مع الله يجب أن تسقط كلُّ هذه الأقنعة، ويجب أن تزول كل العقبات، من هنا كان الحج ذهاباً إلى بيت الله الحرام، كان الحج تركاً للوطن، تركاً للأهل، تركاً للأولاد، تركاً للتجارة، تركاً للعمل .

 وهو تجميدٌ مؤقَّت لمشكلات الدنيا، فالذي يعاني من بعض المُشكلات، والذي تهُمُّه الدنيا ، يهمه أن صحَّته ليست على ما يرام، يهمه أن دخله ليس كما ينبغي، يذهب إلى هناك ليجمِّد هذه المشكلات، لأنها ضاغطة ،فالحج فرصةٌ للصلح مع الله ، وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .

 فالمؤمن حينما تقول : لبيك اللهمَّ لبيك كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك : عبدي تعالَ إليّ ، تعالَ لأريحك من هموم الدنيا، تعال لأذيقك طعم القُرب، تعالَ لألقي في قلبك نوراً ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً ، تعالَ إليّ لتعرف حقيقة الدنيا، تعالَ إلي لتعرف جوهر الدنيا ، تعالَ إلي لتعرف أن القُرب من الله عزَّ وجل هو كل شيءٍ في الحياة . .

إنه فرصةٌ للصلح مع الله لمن كان مقصِّراً، لمن كان تائهاً، لمن كان ضائعاً، لمن كان منغمساً، لمن كان منحرفاً، لمن كان عاصياً، إنك إذا ذهبت إليه ذهبت لتصطلح معه، ذهبت لتعاهده على طاعته، لتعاهده إلى طلب معرفته، لتعاهده على العمل بمرضاته، لتعاهده على السير في طريقه.

والحج شحنةٌ عاطفيةٌ روحيةٌ تجعلك تحثُّ السير إلى الله عزَّ وجل، ففي الإنسان عقلٌ وفيه قلب، القلب بمثابة المُحَرِّك، والعقل بمثابة الموَجِّه، فإذا ضعفت حركة الإنسان، فإذا تقاربت خطواته، فإذا فترت هِمَّته، فإذا بردت عواطفه جاء الحج ليعطي الإنسان شحنةً استثنائيةً إضافيةً تدفعه إلى الله ورسوله .

إقرأ أيضا : أحكام الحج بطريقة ميسرة – بالفيديو

وهل من مناسبةٍ تشحن فيها النفس إلى بارئها مِن أن ترى هذه الأماكن المقدَّسة ؟ مِن أن ترى مكان طواف النبي عليه الصلاة والسلام ؟ مِن أن ترى المسعى الذي سعى به النبي عليه الصلاة والسلام ؟ من أن ترى المكان الذي بايع النبي أصحابه بيعة الرضوان ؟ من أن ترى مقام النبي العدنان ؟ إن مشاهدة الأماكن المقدسَّة في ذلك شحنٌ لكل مشاعر المسلم.

أليست هذه الأماكن في قلوبنا ؟ أليست هذه الأماكن في مشاعرنا ؟ أليست هذه الأماكن في مُخَيِّلتنا ؟ إنك إذا ذهبت إلى تلك الأماكن، ودخلت إلى بيت الله الحرام، وصافَحَت عينك الكعبة المشرَّفة، وطُفْتَ حولها مقبلاً، منيباً، مبتهلاً، داعياً، مستغفراً، تائباً، وذهبت إلى عرفات حيث يجب أن تكون معرفة الله عزَّ وجل.

في الإسلام مبادئ سامية، والحج فرصة لممارسةٌ هذه المبادئ السامية، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(الناس سواسية كأسنان المشط )

(لا فضل لعربيٍ على أعجمي إلا بالتقوى )

(الناس ولد آدم وآدم من تراب )

 (الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم لله أنفعهم لعياله )

 كل هذه الآيات والأحاديث تؤكِّد المساواة بين بني البشر، وفي الحج ممارسةٌ تطبيقيةٌ واقعيةٌ عمليةٌ لهذه المساواة .

 فالحاج يخلع ثيابه، والثيابُ تتفاوت بين قطرٍ وقطر، وبين مصرٍ ومصر، وبين إقليمٍ وإقليم، والثياب تتفاوت بين مختلف الطبقات الاجتماعية، والثياب تتفاوت بين مختلف الأعمال البشرية، تتفاوت بين مختلف المِهَن، تتفاوت من حيث القدرة على شرائها، تتفاوت من حيث الأذواق، إن كل هذه الثياب التي يزهو بها الإنسان، التي يؤكد بها مهنته الراقية، أو مرتبته، أو مكانته، أو طبقته، أو مَنْبَتَهُ، إن كل هذه الثياب يجب أن تُخْلَعْ، ويجب أن يكون الناس في الحجِّ سواسيةً كأسنان المِشط .

فمناسك الحج تأكيدٌ لهذه المساواة التي نادى بها الإسلام، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى، جميعاً يرتدون ثياباً بيضاء ؛ غير مخيطة، تعبيراً عن تلك السواسية المطلقة، فلا أمير، ولا أجير، ولا وزير، ولا خفير، ولا غني، ولا فقير، كلُّهم أمام ملكوت الله عزَّ وجل، وفي بلاده المقدسة سواسية .

والحج رحلةُ سلامٍ ، في زمن سلامٍ ، إلى أرض سلام ، يقول الله عزَّ وجل :﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً﴾ ويقول الله عزَّ وجل : ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، فلا قتل، ولا عدوان، ولا إيذاء، ولا صيد، ولا شيئاً من هذا القَبيل، إنك في أرض سلام، وفي وقت سلام، والرحلة رحلة سلام ن لكي نتعود أن نكون مَصْدَرَ سلام ، أن نكون مصدر أمنٍ للناس، ومصدر طمأنينةٍ لهم.

الدكتور محمد راتب النابلسي

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى