الحج آداب وأخلاق
إن الحج شعيرة من شعائر الإسلام المفروضة مرة في العمر، وينبغي فهم لماذا فرضت مرة واحدة في العمر، ولماذا فرضت على المستطيع الذي يجد المال والزاد والراحلة، ويجد كذلك الأمن، أمن الطريق وأمن النفس، في الذهاب والإياب، قال الله تعالى: “ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ“.
إن فرض الحج مرة واحدة مع الاستطاعة يدل فيما يدل عليه، على الاستعداد التام المطلوب فيمن يريد أداءه، فهو يتطلب الاستطاعة المادية والمعنوية، وهذه الاستطاعة مكلفة في حد ذاتها، ومن ثم ينبغي التثبت من التهيئة لأداء هذه الفريضة، والتفقه في مناسكها، والحرص على تعلمها، حتى لا يذهب الإنسان إلى الحج على غير استعداد، وعلى غير تفقه وتعلم، فيؤدي المناسك على غير وجهها المطلوب، ويعبث بالشعائر، فيتعب نفسه، ويضيع ماله، ثم يرجع بعد ذلك بخفي حنين.
فلماذا يغامر الكثير من الناس في الذهاب إلى الحج، وهم غير مؤهلين لأداء مناسكه كما أوصى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال في حجته: “خذوا عني مناسككم”؟ ألم يكن من الأجدر بهم أن يتعلموا دينهم، ويفقهوا المناسك قبل الإقدام على الحج؟
وإذا كان الهدف هو أداء الحج؛ فإن أداءه يحتاج بالإضافة إلى الاستطاعة المادية والمعنوية إلى التفقه والتعلم، ولذلك، واهتماما بشعيرة الحج، ومن أجل الاستعداد الجيد لأداء المناسك، بادرت بعض البلدان الإسلامية إلى إحداث مدارس خاصة بالحج رهن إشارة مواطنيها، يدخلونها من أجل تعلم هذه الفريضة، ويقضون فيها المدة التي تخولهم شهادة التأهيل للقيام بفريضة الحج. وإذا لم يتأهل الحاج أو الحاجة لأداء فريضة الحج لا تمنح له فرصة الحج ولا يسمح له بأداء الفريضة حتى يتعلم ويتأهل لأدائها.
ومثل هذا الصنيع يدل على احترام الشعائر وتعظيمها وتقديرها، فهي ليست مجالا للتلاعب ولا للإهمال، كما يحلو للبعض أن يتعامل معها لاكتساب السمعة والألقاب. وقد يتميز الحجاج الذين جاءوا لأداء الفريضة عن علم واستعداد، من الذين جاءوا لأدائها من غير ذلك في موسم الحج، حيث تجد الصنف الأول في حالة من الانضباط والأخلاق والسلوك الحسن، وتجد الصنف الآخر في قمة الفوضى والإزعاج والخلق الذميم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم..
إن الحجاج سفراء بلدانهم في مكة والمدينة، وكل سفير يعكس درجة الوعي التي يتمتع بها في بلده الذي جاء منه، كما يعكس درجة التنظيم والنظافة والالتزام بالآداب الإنسانية المفروض توافرها في بني البشر، كما يعكس أولا وأخيرا درجة التحضر الذي وصله نظام بلده.. وكل إناء ينضح بما فيه.. إن الفرق كبير وشاسع بين حاج لا يعرف للصبر طعما، ولا للانضباط شكلا، ولا للاحترام ذوقا، وبين حاج تربى على سلوك التربية الخلقية، من التزام بالآداب الإنسانية، واحترام للآخرين، وتحمل للأعراف المخالفة، والتماس الأعذار، من صفح وعفو وترفع عن الدنايا والصغائر..
وما دام الحج عبارة عن سفر؛ فإن السفر يسفر عن الآداب الحقيقية وعن الأخلاق الحقيقية للإنسان، فكم من الناس لا يعرف على حقيقته إلا في السفر، حيث يمتحن في سلوكه، فيتبين أمره، ويكشف أصله، فيعز أو يهان حسب حقيقة أمره. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه السفر مقياسا لمعرفة الرجال المعرفة الحقة، وهو الذي شهد رجل في حضرته بشهادة في حق رجل آخر، فقال له: “لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك، إيت بمن يعرفك. فقال رجل: من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه. قال: بالعدالة والفضل. فقال: فهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه. قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع. قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل على مكارم الأخلاق. قال: لا، قال: لست تعرفه. ثم قال لرجل: ائت بمن يعرفك”.
فالسفر هو المحك الذي يسفر عن أخلاق الرجال، ويكشف عن خبايا النفوس، ويظهر المرء على حقيقة معدنه التي قد يخفي باطنها ويبدي ظاهرها في غير السفر. ومهما حاول هذا المرء أن يغطي العيوب التي بداخله، ومهما حاول أن يتستر على النقائص، فإن السفر مظنة الكشف والإسفار عن الحقائق التي لا تظهر إلا من خلال الاحتكاك والمخالطة؛ لأن التعامل بين السفر أي المسافرين يكون أكثر قربا، وألصق بطباع النفوس، فيكتشف منها مالا يكتشف في الحضر وفي مواطن الراحة والاستقرار. وعندها يتبين الصبور من الضيق الحرِج، ويتميز العاقل اللبيب من النزق السفيه.
كم من الناس تراهم مشغولين بتعبئة زادهم من المال والمتاع، وزادهم من الصبر قليل.. وكم من الناس يفكر في حمل ما يحتاجه من اللباس على كثرة الأشكال، وزاده من لباس التقوى قليل وزهيد.. والله تعالى يقول: “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى”، ويقول جل وعلا: “وَلِباسَ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ“.
إن الحج يحتاج إلى الاستعداد من أجل أداء مناسكه، وذلك بتقديم التوبة من الذنوب والمعاصي، ورد المظالم إن كانت للحاج مظالم، فلا يليق بالحاج أن يقدم على الله -عز وجل- وهو متلطخُ بالذنوب والمخالفات والخطايا.. لا يليق به أن يأتي إلى بيت الله – عز وجل – وهو غارق في أوحال المعاصي والشهوات والنزوات الآثمة.. لا يليق بالحاج أن يرفع يديه في سماء البقاع المطهرة، وقد خلف وراءه كثرة المظالم، من هضم الحقوق والجور على أهلها، والبغي بغير الحق..
وعلى الحاج أن يكون صادقاً مع نفسه ومع ربه، وأن يقوده هذا الصدق إلى إعلان التوبة الصادقة من جميع الذنوب والخطايا والمعاصي، قبل أن يقدم على الحج. ثم يتوجه بعد ذلك إلى الله عز وجل بأن ييسر له الحج، وأن يعينه على الحج المبرور الذي يمحو الخطايا، ويعود صاحبه منه كيوم ولدته أمه، نقيا طاهرا تقيا..
وينبغي للحاج أن يطهر نفسه وقلبه، وهذا هو الاستعداد الحقيقي لأداء المناسك، وأن يشعر بأنه يريد أن يتخلص من سلبيات الماضي وخطاياه، ويبدأ صفحة جديدة، يقبل فيها على الله بالتوبة النصوح، وبالرجوع نادما على ما فات من إهدار العمر في غير طاعة الله تعالى. ولا يمكن لأحد أن يبدأ صفحة جديدة من عمره، حتى يكون قد عزم على التخلي عما سلف من سيء الأخلاق وذميم الفعال، وقبيح التصرفات والسلوك، ثم التحلي بجميل الصفات وحسن الأخلاق وكريم الخصال..
والمفروض في الحاج أن يكون ذا خلق حسن وعشرة جميلة، متمتعا بالرفق واللين والتسامح وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ومتصفا بالإحسان والتحمل والصبر على الأذى؛ لأنه ما أكثر الأسباب المؤدية إلى القلق والضيق والنزاع والخصام، وخاصة في أجواء الازدحام وأماكن الاكتظاظ، حيث يضيق صبر الكثير من الحجاج الذين لم يتدربوا على الصبر قبل مجيئهم إلى الحج، فيسارعون إلى الجدال والخصام واللجاج، بل لا يرعون أحيانا من اللجوء إلى السباب واللعن والخشونة والمدافعة والغلظة في حق إخوانهم من الحجيج، متناسين بأن الحج يحتاج من الحاج للحفاظ على أجره وثوابه إلى الصبر وحسن المعاملة وكريم الخلق..
إن من حج ولم يستفد من حجه فذلك الذي لم يخلص نيته لله، ولم يحترم آداب الضيافة حين كان ضيفا على ربه في حرمه وفي بيته، كان ضيفا من ضيوف الرحمن فما التزم بحقوق الضيافة، وما علم بأن الإساءة في هذا المقام هي إساءة للمضيف، وإساءة إلى بيته وحرمه، وإلى ضيوفه الذين جاءوا من كل فج عميق، ملبين طائعين، وليعبدوا ربهم ويوحدوه، ويذكروه ويشكروا له على ما هداهم إليه من نعمة الإسلام والتوحيد، وليشهدوا منافع لهم..
إن الإساءة في بيت الله الحرام، ذلك المقام الذي يحج إليه كل الأنام، هي إساءة تسير بذكرها الركبان، ويشهد عليها كل الخلائق الذين حجوا ولبوا وصلوا وطافوا بالأركان، ومن ثم عظم جرمها بعظمة المقام والمكان والزمان.. فليحذر الحاج أن يسيء إلى ربه الذي ضيفه في بيته الحرام، فيسيء إلى ضيوفه، وإلى بلده وإلى نفسه وإلى مقامه، ويفسد حجه ومرامه.. وليتذكر حجم المعصية وعظمها في ذلك المقام، والتي قد يسري عليه أثرها في حجه وبعد حجه، فيعود منه وقد عظمت ذنوبه، فزاد إصرارا وعنادا، واستمرأ التمرد على شرع الله، والتكبر على خلقه، وخسران نفسه..
والمسلم متى استطاع الحج بادر إلى أدائه، وقام بالمناسك التي محلها البيت العتيق، والذي “فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً”، لقد شرع الله الشرائع والعبادات لحكم عظيمة ومصالح عميمة، بعضها يدركه الإنسان وبعضها لا يدركه، وقد فرضها على سبيل اليسر؛ لأن الله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، ولا يكلفهم إلا وسعهم، ولا يجعل عليهم في الدين من حرج. والحكمة الجامعة في العبادات كلها هي تزكية النفس وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص والرذائل، وتحريرها من عبادة الشهوات، وتقريبها من الملأ الأعلى، لتسمو فوق شهوات الأرض، وترقى إلى مصاف الإنسان المكرم بكرم الله، حيث يقول: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً“، وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان العبد ولعقله وإرادته، ولذلك كان لكل فريضة أسرار وحكم ومنافع هي مقاصدها التي شرعت من أجلها، وفي كل ذلك تحقيق للعبودية الحقة لله وحده، وإخلاص للعمل وإقامة للدين، وارتباط بين المومنين وتوحيد لهم على ضوء دين الله.
إن شعائر الإسلام تعلمنا الإيمان وتزودنا به، وترشدنا إلى العمل وتطالبنا بالتزامه، فهي تعلمنا أن نكون مسلمين صالحين. ومن هذا المنطلق فإن وظيفة الحج تستمد من دلالة عبادته، وليس من مجرد العبادة، كما هو الشأن في سائر العبادات التي فرضها الله عز وجل من أجل تحقيق غاياتها، فوجب تعلم دروسها والاستفادة منها، ليكون لها مغزى في حياتنا يدل عليه تعبيرنا عن الخضوع التام لله سبحانه وتعالى.
منقول (بتصرف)