الحبيب الشوباني في نعيه للأستاذ الأمين بوخبزة: إلى رضوان الله أيها الأمين اسما وخلقا
بالعد العكسي لتاريخ تواصلنا قبيل إغلاق قوس الدنيا الضيق، والانتقال إلى سعة الآخرة ورضوان الله..أشهد – ولا أزكي أخي على الله – في حق الأستاذ الأمين بوخبزة، شامة تطوان وغصن أريجها الميّاد، وجبلها من الخير والبر والإحسان بكل زاد، وعلَمها الإسلامي والتربوي نشدانا للرشد والسداد، بما يلي:
١- في عز اشتداد وطأة المرض، فاجأني يوم 10 مارس 2024 برسالة قصيرة، بعد قراءته للمقالة الثالثة من سلسلة مقالاتي حول طوفان الأقصى والمسألة اليهودية، يقول فيها: “أجدت وأبدعت، شكر الله لكم وزادكم حرصا، فهذه القضية ليس لها بعد الله إلا إبناؤها الصادقون المخلصون. أسألكم الدعاء الصالح فأنا الآن في قسم العناية المركزة بجناح جراحة القلب بالمصحة الدولية بطنجة” .
تعجبت، كيف يجد مريض في قسم العناية المركزة وقتا لكلمات يعبر فيها عما يخالج روحه مما لا يتصل بمرضه؟ وكيف يجد أصلا وقتا لقراءة مقالة عن قضية قد لا تبدو أولوية من يعالج مرضا مستعصيا ناشبا في عضلة القلب؟..اتصلت على عجل لكي أطمئن على حالته الصحية، أجابني على الفور من سرير المرض. كان الصوت متعبا خفيضا، لكنه بلطفه المعهود تجاوز الحديث عن وجوده إلى الحديث عن وجود فلسطين، فجدد التأكيد على ما يجب وأوصى بما يجب، ودعا واثقا من وعد الله بالفرج وانكشاف الغمة..!
قلت في نفسي بعد وداع دافئ حميم: هذا هو الأمين من غرفة العناية المركزة بجناح أمراض القلب، يسمو على آلام الأنا، منشغلا بوضع فلسطين الشهيدة..وكأنها في روعه جسد مسجّى في غرفة العناية المركزة، بجناح أمراض المكر الدولي والعجز القومي إذ يحيطان بها من كل جانب، لكن الرجل يبصرها من طنجة رغم كل ذلك، شامخة عصية على الموت، تقتل قاتليها بعمليات الأبرار، وبصبرها الأسطوري، وبيقينها العتيد العنيد في الوعد الآت.!
٢- يوم 19 مارس 2024 توصلت من الأمين برسالة قصيرة – مرفقة ببطاقة إعلانية لحلقات البرنامج الذي سجلته معه “قناة الأُنس الفضائية” حول “تاريخ الحركة الإسلامية من خلال رجالاتها” – يقول فيها: “انشرها في المجموعات التي غلب على ظنك أنها ستستفيد منها” .وبعد تواصل هاتفي لتجديد السؤال عن حالته الصحية وجدته كما هو؛ صوت ضعيف مبحوح لكن الرجل يبدو كما لو كان فارسا يعدو يسابق الزمن يوشك أن يبلغ الغاية، لا حديث إلا عن الآخرة والعمل الموصول لخدمة الإسلام؛ استعدادا للقاء الله..فقلت في نفسي وقد كان هذا الحديث آخر العهد به هاتفيا: هذا هو الأمين كما عرفته رجله في الدنيا والعين همة عالية مشدودة للآخرة..!
٣- في صيف 2023 شاركت صحبة الأخ العزيز سي محمد امحجور في تأطير لقاء شبابي بتطوان وحرصنا معا على زيارة الأمين رغم علمنا بوضعه الصحي الذي لا يسمح باستقبال الزوار. كنت حريصا على زيارته ولو لخمس دقائق، لتسليمه نسخة من كتاب زوجتي المرحومة سمية (مدارج آيات القرآن للفوز برضى الرحمان ).والدعاء له والتأمين على دعائه.طال انتظارنا ولم يفتر صبرنا ونحن جلوس في مقهى شعبي، وفجأة رن هاتف الأخ امحجور وأبلغتنا زوجة الأمين أنه في انتظارنا، توجهنا للبيت ونحن حريصون على أن لا نتجاوز بضعة دقائق..
لكن الرجل عند رؤيتنا تغيرت أسارير وجهه، وكأنه نشط من عقال المرض..قضينا حوالي ثلاث ساعات من المؤانسة والامتاع. أنساني بذخها الروحي موعد قطار البراق فعدت في حافلة غادرت طنجة الساعة العاشرة ليلا..ودخلت بنا للرباط في الساعة الثانية صباحا !
كانت جلسة الأمين بادخة بفيوض الأخوة والمعرفة وحديث الآخرة، وكان الختام مسكا رفع الأمين يديه للسماء، فاستمطر لنا ولأمواتنا ولأمتنا من رحمات الله ما به فاضت العيون..وانشرحت الصدوروكان آخر العهد به عناقا دافئا وقبلات على الجبين..ونظرات وداع أخيروكأننا نقول لبعضنا البعض؛ هذا نصيب الاجتماع في الدنيا وحظنا من سويعاتها الراكضات وإلى الملتقى في جنان الله الواسعات.
فيا أيها الحبيب الأمين.. إلى رضوان الله في الخالدين، طبت حيا وطبت ميتا، وبورك غراسك الذي ظللت ترعاه وتنميه إلى آخر عهدك بمزرعة الدنيا..جمعنا الله في مستقر رحمته إخوانا على سرر منقابلين فضلا من الله ونعمة.. آمين.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
أخوك الذي يحبك في الله الحبيب الشوباني.