الجمع العام الوطني السادس للتوحيد والإصلاح.. الدرس الديمقراطي
أسدل الجمع العام السادس لحركة التوحيد والإصلاح الستار عن مرحلة دقيقة وعادية في مساره التنظيمي، وكان أعضاؤه في مستوى الحدث تنظيما وانضباطا ونقاشا ووعيا بالتحديات والإكراهات ومتطلبات الأمة، واستيعابا للمشروع الحضاري الذي تعاقدوا عليه. وليس من سمع كمن رأى ولا من رأى كمن ذاق طعم حرية التعبير والشورى، والنقد البناء، والتفاني والتشوف إلى رؤية المستقبل بنظرة إيجابية، وعمق في تحليل الوقائع والأحداث، وتغييب الذات والانتصار للمصلحة العامة للوطن قبل الجماعة.
مؤتمر عادي في سياقات متعددة:
معلوم أن حركة التوحيد والإصلاح أخذت على نفسها عهدا أن تكون منسجمة مع ذاتها محترمة لميثاقها ورؤيتها وتوجهاتها الاستراتيجية التي رسمتها قبل أن تطفئ شمعتها العشرين. وتدقق في مواعيدها، محترمة أعضاءها ومبادئها.وهكذا جاء المؤتمر/ الجمع العام بعد أربع سنوات من العمل والتدافع القيمي، والمساهمة في البناء والتجديد، والقيام بالوظائف التربوية والتكوينية والدعوية، والتأطيرية، والترافعية، والانفتاح على المجتمع من أجل ترسيخ وتعزيز منظومة التماسك المجتمعي في بلد متعدد الثقافات والمشارب، بنفس إيجابي ورؤية مستقبلية تتوخى التقدم والتنمية ، والكرامة والعزة للأمة، وإخراجها من التبعية، والانهزامية، إلى فضاءات رحبة للبناء والرقي والازدهار.
هذه التطلعات والآمال جاءت في سياقات متعددة مليئة بالأحزان والانتكاس والتشرذم، والنكوص، والهجوم على الهوية الحضارية للأمة، وتفكيك المفكك وتجزيء المجزأ حيث يعرف العالم الإسلامي على الخصوص هجوم قوى أرادت له أن يبقى في أسفل السلم ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا. والمتأمل لواقعنا يلحظ أن بؤر التوتر توجد في رقعة عربية وإسلامية سواء في الشرق أو الغرب، وأصبح ملازما لهذه الرقعة صناعة الموت بدل الحياة والهجرة والتقتيل وسرقة كل ما تنتجه الأرض وكذا الإنسان، تحت مسمى حمايتها من الإرهاب.وعلى المستوى الوطني والإقليمي عرفت بلادنا تراجعا عن الخيار الديمقراطي في مجالات متعددة لاسيما المجال الحقوقي والتنموي.
الجمع العام والدرس الديمقراطي:
العملية الانتخابية:
انزوت العديد من الأقلام على وسم القيادات الخمس بصفات وصل بعضها إلى التشفي في رئيس الحكومة السابق واعتبرت ترتيبه خامسا ضمن الأوائل تراجعا في شعبيته، وعقابا له على خياراته السياسية لما كان على رأس جهاز من أجهزة الدولة، معذورون جميعا سواء أكانوا عن حسن نية أم بنية مبيتة، فغالبيتهم العظمى ما زالت تعيش طغيان الطبخ الانتخابي حيث الكولسة والتآمر وجاهزية الأفراد لإنجاح من يحقق لهم مصالحهم الذاتية، وهم في ذلك معذورون، لأن مثل النموذج الحاتمي سابقا أضحى تجارة مفقودة في زمن النفاق السياسي والفساد الانتخابي.
إن اختيار رئيس الحركة يتم بطريقة يصعب معها الكولسة سواء الناعمة منها أو الخشنة، لأن كل مؤتمر وبطريقة فردية يصوت على 3 أسماء على الأقل، وخمسة على الأكثر من بين أعضاء الحركة ترجح لديه قدرة أحدهم على قيادة الحركة لمدة أربع سنوات مستقبلية. وبعد جمع أوراق المصوتين، وأمام حضور ضيوف يعدون بمثابة مراقبين دوليين، وطاقم من الشباب والشابات، ولجنة صادق عليها المؤتمر تسهر على العملية الانتخابية. وبعد الفرز يتم التداول في الخمسة الأوائل حيث يدلي كل مسجل في لائحة المداخلات بما يراه مفيدا لترجيح من اختاره أو يختاره من بين الخمسة، وأثناء مسار هذه العملية المضنية والتي تعتمد منهج الجرح والتعديل، وتقييم أداء المرشحين، وعملهم، وقدراتهم، وبعض صفاتهم القيادية، يصعب على المؤتمرين في البدء الاختيار، وقد يصل العديدون إلا الباب المسدود في التفضيل والتفاضل . وتقدم الأعذار والتحديات وطرق العمل، وبعدها يأتي الدور الثاني من التصويت لاختيار من ترجح لديهم اسم من الأسماء لقيادة المرحلة، وهو ما تم بكل حرية ، وبعد اعتذار للخمسة عن تحمل المسؤولية.
التمرين الديمقراطي:
ليست الديمقراطية كلاما معسولا، أو أملا يرجى، ويتبجح به في المنتديات والملتقيات، بقدر ما الشورى والديمقراطية لها مرتكزات وأسس تنبني عليهاـ، بل هي فعل يومي يعيه الديمقراطيون ويعتقدونه، يمارسونه بكل أريحية في حياتهم اليومية، ويعتبرون أي خروج عن المبادئ المتعارف عليها ضرب في مصداقيتهم، وتشكيك في نضاليتهم.
لقد كان المؤتمرون أمام تمرين ديمقراطي اختلفت فيه وجهات النظر سواء أثناء مناقشة التوجهات الإستراتيجية وخيارات الحركة، وتحديد مجالات عملها وأولوياها، وما قامت به في مسارها من مراجعات، وما أنتجته من مقترحات وأفكار أصبحت ملكا جماعيا لها تتوخى من خلاله التعاقد مع المجتمع المغربي لتحقيق الأهداف التي كانت سبب تواجدها، ودافعها نحو الفعل الإصلاحي،ومكابدتها وصبرها على التحديات ومحاولة تجاوز الصعوبات، وتبسيط رؤيتها وميثاقها. وتؤكد للداخل والخارج أنها ليس بدعا من الفعل الحضاري، بقدر ما هي مساهمة في صرح التنمية والشهود الحضاري للـأمة. تحاول جاهدة ترشيد التدين والإصلاح سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع، أو الأمة.
لم نسمع خلال ست ساعات من التداول الصخب والعنجهية، والقذف أو التعرض للأعراض بقدر ما كنا أمام تقييمي موضوعي للأداء، وترجيحا للأفضل والأحسن والأكثر استعدادا لإيصال السفينة إلى بر الأمان. ومن تتوفر فيه سمات التجميع وحسن الاستماع، وفن الإدارة، وتقبل المخالف، والمنفتح على النقيض.كما تفهمنا جيدا الإكراهات والتحديات واختيارات الأفراد ومواقعهم.
وأهم ما سعى له المؤتمرون حرصهم على تطوير المفاهيم والحفاظ على الخصوصية المغربية، والانتصار للرسالية، وغرس القيم وتعزيزها، والربانية من خلال استشهاداتهم والمحافظة على صلواتهم في وقتها، واتهام ذواتهم بالتقصير، وطلب العون والهداية والعفو والعافية، والستر.ونبذهم للعنف، وصبرهم على بعضهم البعض، وحسن ضيافتهم لزوارهم، وهم بذلك ليسوا ملائكة أو هكذا يتخيل، بل بشر يخطؤون ويصيبون، ويجتهدون، ويتعثرون.
لم يفسد الخلاف بينهم روح آصرة العقيدة للأمة، ولم تثنهم تعثراتهم عن معاودة المحاولات للتعريف بمشروعهم وتصوراته والتواصل مع باقي الشرائح المجتمعية.
وقد شهد على بعض معاني التميز للجمع العام أحد ضيوفه د.عادل رفوش والذي قال ” وما إن بلغنا “مرحلة- الانتخاب ” بعد عروض التقارير الأدبية والمالية؛ ومناقشة كثير من التفاصيل التنظيمية بائتلاف واختلافٍ؛ حتى وجدنا أنفسنا أمام لوحة دعوية وجلسة تنسيقية من أروع ما يمكن أن ترى عينك في أشغال الحركات المجتمعية؛ فتيانٌ وفتياتٌ في عمر الزهور؛ ورجالٌ ونساءٌ في حزم الدهور؛ كلٌّ في مكانه ومكانته يفتدي ولا يعتدي ويقتدي ليهتدي؛ تشعر بالمحبة تغمرهم وتفيض منهم على ضيوفهم؛ مع الحماس الذي يعم الجميع؛ رغبة في العطاء وحرصاً على النجاح؛ إذْ كل مشروع فَقَدَ الحماسةَ فَقَدْ فشل.. وإن تعجب فعجبٌ ذلك التواضع الذي وُفِّقَ له قيادات الحركة فهم رغم المسئوليات ورغم الدرجات ورغم الشهرة التي بلغوها وطنيا ودوليا ما زالوا مع الحركة بكل تفاعل وتعاطف وحضور؛ بَدْأً بالسيد العثماني والسيد بنكيران والسيد عز الدين توفيق والسيد أبوزيد المقري والسيد الحمداوي والعلامة الريسوني وغيرهم كثير نفع الله بهم؛ وقد رأيناهم في حالةِ انسجامٍ مع شبابهم وقوانينهم لا يتفاخرون بلقب ولا يتطاولون على مُحب.. الكبير متواضع والصغير يُقدِّر؛ وبينهما عملية تواصل ليستفيد اللاحق من تجربة السابق؛ ولا ينطوي السابق عن اقتراحات اللاحق.. وأمام كل ذلك الجمال والجلال يصعد السيد الرئيس سيدي عبد الرحيم شيخي المنصة ليقول كلمته بعد رباط أربع سنين ليدافع عن ترشيحِهِ؛ ولكنَّه سيفاجئ الجميع رؤوسا وأعضاء بل وضيوفا … إنه لا يرغب في الرئاسة ويرفضها رفضاً تاما باتاًّ… في موقف يكاد يكون من المستحيلات في عالمنا العربي والإسلامي؛ حيث يتقاتل الناس على المناصب ويتعاركون على الرئاسات؛ ولكن إخواننا في الحركة يتقاذفونها دون التخلي أو استبدال؛ ورئيسهم يجسد ذلك الزهد عمليا ويعلله منطقيا؛ وتنهمر دموعُ الإباء والأمانة من عيونه؛ ليقول للناس ارحموني فأنا دون هذه الأمانة بكثير؛ وما تحتاجه للقيام بها حق القيام يعوزني؛ وأفقد بعض الأحيان من يعينني؛ ويؤيده في ذلك كل الكِبار فكلهم يُؤْمِن بالعمل؛ ولكنه يتهيب المسئولية؛ وينتقد تخاذل بعض الأعوان والأعضاء.. وتلك لعمر الله “روح – الأمانة أن تتجند للعمل ولا يهمك هل تكون آمِراً أو مأْموراً ” ..
صراحةً كانت لحظاتٍ مؤثرة أربكت الجميع وأبكت الجميع؛ وبالأخص حينما أيدها الريسوني وبنكيران بدموعٍ تشكو الغدر والتثبيط وبحججٍ تلخص المراشد والمقاصد.. ولولا ما اتفق عليه الغالبية من وجوب استجابة السيد شيخي لنداء الناخبين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة والوطن والحركة؛ وأن يتحدى كل الصعاب النفسية والموضوعية؛ لَكانَ لهذا الْيَوْم مسار آخر في تاريخ الحركة ولكن الله سلم فائتلف الجمع والْتَأَم.. “
وماذا بعد؟
لا يجب على أبناء المشروع أن يغتروا بما يسر الله لهم من تنزيل لروح الشورى وتماسك وإخوة ومساهمة مقدرة في المجتمع، أنهم عبيد لله همهم قوله تعالى “كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز” فاليوم هم جسد واحد لرب واحد وقبلة واحدة، ونبي واحد وعقيدة موحدة، وغدا أما رب واحد فرادى لكل امرئ ما كسب.
لم نخلق لتعيش طول الدهر بل لنترك بصمات وراءنا، لنساهم في البناء الحضاري للأمة. فحيا على العمل، ومن أجل تنزيل المخطط الاستراتيجي المرحلي وبرنامج التعاقد والانخراط في الحملات الدعوية والتدافع.
عبد الرحيم مفكير