التواج يكتب: في غمرة الوباء.. التضرع إلى الله بالدعاء طريق الفرج
الحمد لله الكريم المنان، كاشف الغمة والبلاء، سابغ النعم والآلاء، والصلاة والسلام على نبينا محمد أكرم من دعا ربه وتضرع إليه.فجزاه ربه بأن قال له :ّ”إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ “.
أما بعد، فيقول الله تعالى:{﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 42.
الابتلاء بالبأساء (وهو الفقر والضيق في العيش) والضراء ( وهي الأمراض والأسقام والآلام) سُنَّة إلاهية ماضية في الناس،والحكمة العامة التي تجمع كل ذلك هو اهتداء الناس ورجوعهم إلىالله، والبُعْد عن طريق التمرُّد والعصيان.قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} سورة الروم.
والإنسانمنا لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا ينبغي له ذلك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قال: ” يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرَفَةَ عَيْنٍ”.( )
والغالب على الناس أن لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر اللّه عزّ وجلّ إلاّ عند حدوث حاجة ملحة أو نزول كرب عظيمة، فإنّ الإنسان إذا مسّه الشّرّ لجأ إلى الدعاء وأكثر منه وألح فيه.
والحاجة تُحْوجُ الناس إلى الدّعاء، والدّعاء يردّ القلب إلى اللّه عزّ وجلّ بالتّضرّعِ والاستكانة، فيحصل به الذّكر الّذي هو أشرف العبادات.
الدعاء أعظم أنواع العبادات:
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ” ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60.( )
الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ” معناه أنه مُعظم العبادة أو أفضل العبادة، كقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الْحَجُّ عَرَفَةُ “، يريد أن معظم الحج الوقوف بعرفة، وذلك أنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج،
قال الإمام الخطابي – رحمه الله -: معنى الدعاء استدعاء العبدِ ربَّه عزَّ وجل العناية َ، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه، ولذلك قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “الدعاء هو العبادة”.( )
إننا قد نغفل في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغي أن تصيبنا الغفلة عنها في أوقات البلاء والمحنة.ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)( )وقال أيضا :منْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه ” مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ “( )، وذلك حتى لا يكون انتهازيا لا يعرف ربه إلا في الأزمات، ويعرض عنه في حال الرخاء، بل يعرف ربه ويرجع إليه في كل أحواله.
التضرع إلى الله بالدعاء مطلوب:
التضرع هو دعاء الله وسؤاله بذل وخشوع وإظهار للفقر والمسكنة، وهذا الحالة يحبها ربنا ويرضاها، بل أمر عباده بها:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55) قال ابن عطية: (هذا أمر بالدعاء وتعبد به، ثم قرر عز وجل بالأمر به صفات تحسن معه، وقوله: تَضَرُّعاً معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب ( )
وقال الفخر الرازي:اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُشَاهِدًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَلِعَجْزِ نَفْسِهِ وَمُشَاهِدًا لِكَوْنِ مَوْلَاهُ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ( )
ومن أعظم أسباب دفع البلاء تضرع العبد لربه، والغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله.
في يوم بدر اسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} الأنفال: 9.( وفي طلب الاستسقاء قال ابن عباس:(خرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ متبذِّلًا(أي فيثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة)،متواضعًا متخشعا (في صوته وبصره،ليس سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، في خطوات متقاربة) متضرِّعًا (أ ي بكلماته سائلا الله تعالى ملحا في الدعاء أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر ) حتَّى أتى المصلَّى،فرقى على المنبرِ،ولم يخطُب خطبَكم هذِهِ ولَكِن لم يزل في الدُّعاءِ والتَّضرُّعِ والتَّكبيرِ ثمَّ صلَّى رَكعتينِ كما يصلِّي في العيدِ.)( )
والمقصود هنا: الانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالى، وإظهار الافتقار إليه،لأنه هو اللائق بحال الحاجة والمسألة والدعاء.
والأمر بالدعاء جاء مشروطا باليقين في الإجابة، ولذلك كان من وصاياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»( )
والداعي حينما يدعو ربه لسؤال حاجة أو لدفع ضر أو جلب خير، فإنما يدعو بما في قلبه ويجرى عليه لسانه، من غير تكلف ولا سجع في الألفاظ، ولا تطريب في الأصوات، لآن المقام لا يستدعي ذلك ولا يناسبه.
قال ابن بطّال :(إنما نهى عن السجع في الدعاء ، والله أعلم ؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومَشقّة ، وذلك مانِع مِن الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى ، وقد جاء في الحديث: ” إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ ” . وطالِب السجع في دعائه هِمّته في تزويق الكلام وسَجعه ، ومَن شغل فِكره وكَدّ خاطره بِتَكَلّفه ، فَقَلْبه عن الخشوع غافل لاه .)( )
وقال الرازي : (اجمعوا على أن الدعاء مع غفلة القلب لا أثر له) .( )
وقال القرطبي : (مِن شرط الداعي أن يكون عالِمًا بأن لا قادر على حاجته إلاّ الله ، وأن الوسائط في قبضته ومُسَخَّرة بتسخيره ، وأن يدعو بِنِيَّة صادقة وحضور قلب ، فإن الله لا يستجيب دعاء مِن قلب غافل لاهٍ ، وأن يكون مُجْتَنِبا لأكل الحرام ، وألاّ يَمَلّ مِن الدعاء )( )
وقال ابن القيم في حديث : ” واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ” : فهذا دواء نافع مُزيل للداء ، ولكن غفلة القلب عن الله تُبْطِل قوّته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها .)( ) ـ
وقال ابن رجب : (الدعاء سبب مُقْتَض للإجابة مع استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلف إجابته لانتفاء بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه .
ومِن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاء الإجابة من الله تعالى)( ).
قال ابن القيم:( في الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله، لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا. )( )
وقال القاري: (أي: كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون بها الإجابة من إتيان المعروف، واجتناب المنكر، ورعاية شروط الدعاء؛ كحضور القلب..)( )
وقال المناوي : (أي لا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه، مشغوف بما أهمه من دنياه… والتيقظ والجد في الدعاء من أعظم آدابه)( )
قال الإمام الرازي: (أجمعت الأمة على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل النفع عديم الأثر، قال: وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة ولا بحالة مخصوصة).( )
الدعاء يدفع القدر:
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ” لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءِ يَنْفَعُ مَمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلُ، وَإِنَّ البَلاَءِ لَيَنْزِلُ، فَيَتَلَقَّاُه الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوُمِ الْقِيَامَةِ)( )
وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ)( )
يقول الإمام ابن القيم: (والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن.
وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:
1 – أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه.
2 – أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن يخففه وإن كان ضعيفًا.
3 – أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.( )
التضرع إلى الله سبيل النجاة:
إن من منازل العبد في سيره إلى الله افتقاره التامُّ إلى ربه الجليل، ويقينه أنه لا يكشف الضرّ عنه إلا هو، ولا يأتيه بالخير سواه، وهذا يدفعه إلى الاستسلام التام لربه سبحانه، وهذا من كمال توحيده وتمام إيمانه، وسلامة قلبه، قال الله تبارك وتعالى: {وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يونس: 107.
فلا بد من تضرع لله تعالى بالدعاء لكشف البلاء، في الحال والمقال، في الظاهر والباطن، يحضر فيه القلب ويلهج به اللسان وتظهر آثاره على الجوارح، فيكون حال الداعي حينئذ كحال المضطر الذي قال تعالى فيه :﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ سورة النمل آية: 62.
والمضطر فسره ابن عباس بقوله: (هو ذو الضرورة المجهود.) ويشبه حالته المكروب الذي ضاقت عليه الحياة من كل جوانبها، فلم ير مفرجا لها إلا ربه الرحيم اللطيف، فالله سبحانه هو المرجو عند الشدائد والنوازل، فلا سواه يلجأ إليه المضطرون فيها.
الأستاذ خالد التواج
الهوامش:
- صحيح سنن النسائي
- صحيح سنن أبي داود
- “شـأن الدعاء” (ص: 4)
- مسند احمد، صحيح الجامع: 2961
- صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1628
- تفسير المحرر الوجيز،2/410
- تفسير مفاتيح الغيب14/280
- صحيح مسلم باب الامداد بالملائكة في غزوة بدر
- صحيح سنن أبي داود
- صحيح سنن الترمذي
- شرح ابن بطال على صحيح البخاري،10/100
- التيسير بشرح الجامع الصغير 1 / 106
- أحكام القرآن،ج2/186
- الجواب الكافي ،ص.4
- جامع العلوم والحكم،2/403
- الجواب الكافي، ص:10
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للإمام محمد التبريزي،5/125
- فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير،1/285
- المصدر نفسه،1/228
- صحيح الجامع “للألباني (7739)
- صحيح سنن الترمذي
- الجواب الكافي لابن القيمًص7