الاجتهاد لاغتنام فضل العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله أمرنا بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة إذ قال:
“وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) ” البقرة
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد، أنزل الله تعالى في كتابه:
“لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)” المائدة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
قال عز من قائل يصف عباده المقربين من الأنبياء والصالحين:
“إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)” الأنبياء.
ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبد الله و رسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله أنزل الله تعالى عليه قوله العظيم في كتابه الكريم:
“إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ”
المؤمنون (57 ـ 61)
فصلى الله عليه و سلم من نبي أمين، ناصح حليم، وعلى آله وصحابته والتابعين، وعلى من حافظ على دينه وشريعته واستمسك بهديه وسنته إلى يوم الدين.
أما بعد، من يطع الله و رسوله فقد رشد و اهتدى، وسلك منهاجا قويما وسبيلا رشدا،
ومن يعص الله ورسوله فقد غوى واعتدى، وحاد عن الطريق المشروع ولا يضر إلا نفسه ولا يضر أحدا،
نسأل الله تعالى أن يجعلنا و إياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله و سؤله، فإنما نحن بالله وله،
عباد الله:
عملا بما في الآيات التي صدرنا بها الخطبة من توجيهات،
وما تضمنته من إرشادات توجه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أمته بالنصح والترغيب، والتحذير والترهيب،
فقال:
“بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا”
(رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة في كتاب الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل ظهور الفتن)،
و قال عليه الصلاة و السلام :
“بادروا بالأعمال هرمًا ناغصًا ( أي مُكدرا للعيش)
وموتا خالِسًا ( أي على فجأة)
ومرضا حابسا (أي حائلا بينكم و بين فعل الصالحات)
وتسويفا مؤيسا” (أي لا يزال المرء يسوف إلى أن يصير على درجة اليأس مِنْ تَدارُكِ ما فاته)
(ابن أبى الدنيا، والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة)،
وقال صلى عليه و سلم: “بادروا بالأعمال ستا:
إمارة السفهاء،
وكثرة الشّـُرَط (رجال الشرطة والأمن والمراقبة ومن في معناهم وعلى شاكلتهم)،
وبيعَ الحكم (بيع الحكم؛ ومعناه: جعله سلعةً لمن هو في يده؛ أو هو من أهل حله وعقده؛ في أخذ الرشوة على ذلك ونحوها.)،
و استخفافا بالدم ( أي ترك القصاص من القاتل) ،
وقطيعة الرحم، ونُشُوًّا ( أي أحداثا صغار السن )،
يتخذون القرآن مزامير، يُقدِّمون أحدَهم ليُغنِّيهم وإن كان أقلـَّهم فقهاً ” (أنهم يتخذون أئمة للصلوات لصوتهم فقط وليسوا أهلاً لها؛ إذ السنة تقديم الأعلم)
(رواه أحمد والطبراني عن عابس الغفاري رضي الله عنه)..
فلا تتركوا عباد الله الأزمنة الفاضلة تمر بكم وأنتم عن قدرها غافلون ومواسم الخير ومحطات النفحات تجتازكم وأنتم عن بركاتها معرضون،
فها هو رمضان قد انتصب لنا مودعا فنعم الحبيب، ونعم الضيف و الصاحب لأهل التقوى و الإيمان، ها هو لم يبق منه إلا أيام قلائل،
فأين نحن أيها المؤمنون و أين حالنا من حال المؤمنين الصادقين المخلصين الذين قال الله عنهم في كتابه المبين:
“تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا ومما رزقناهم ينفقون “،
أين نحن أيها المؤمنون وأين حالنا من حال الذين قال الله عنهم:
“كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون و في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم “،
أين نحن أيها المؤمنون وأين حالنا من حال الذين قال سبحانه في شأنهم:
“الذين يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار”.
ألا فاغتنموا أيها المؤمنون ما تبقى من هذا الشهر الكريم قبل رحيله،
وتوبوا إلى ربكم قبل فوات الفوت ومفاجأة الموت ونزوله،
واعلموا أن العبد إذا تاب وأقبل على ربه أنسى الله حَفَظَتـَهُ ذنوبَه،
وأنسى ذلك جوارحه ومَعالِمَهُ من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهِدٌ بذنب،
فالله أفرحُ بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد،
فانهضوا رحمكم الله إلى حضرة ربكم، وتأسوا في نهوضكم بنبيكم صلى الله عليه وسلم،
فقد كان أعلم الخلق بالله وأخشاهم له، وأخلصهم صلاة وصياما وأقومهم تبتلا وقياما،
واعملوا بما أمركم به ورغبكم فيه، واجعلوا من اليقظة والسهر في العبادة بدلا عن النوم و الغفلة،
واستعيضوا بمناجاة الله تعالى عن محادثة الناس و الخلان، لعلكم تجدون ذلك ذخرا في يوم تعظم فيه الأهوال وتشيب الولدان،
واجتهدوا هداكم كي تصادفوا ليلة القدر التي عظمت منزلـة وقدرا،
ليلة ينزل فيها الروح الأمين، في جمع وافر من الملائكة الأكرمين،
أخرج البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
“من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه “،
وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره :
“أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فعجب الصحابة من ذلك،
فأتاه جبريل فقال:
يا محمد قد أنزل الله عليك خيرا من ذلك، ليلة القدر خير من ألف شهر، هذه أفضل من ذلك،
فـَسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و الناسُ “،
فيا لها من ليلة قد فاق قدرها التقدير بالمقدار، وعمت رحمة الله فيها العصاةَ و الأبرار،
واعلموا أنها على المشهور في العشر الأواخر من غير تعيين،
لكن جرى عمل الناس اليوم وقبله بأزمان على التعيين وأنها ليلة سابع و عشرين،
ومستندهم في ذلك ما أخرجه الإمام مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب قال :
“والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، والله إني أعلم أي ليلة هي،
هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة يوم سبع وعشرين،
وأمارتُها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها”.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) (متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها).
وفي رواية مسلم: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر،
وهذا قيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة، وقيل: كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات.
وثالثها: أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة.
ورابعها: أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر.
فاغتنموا عباد الله بقية شهركم فيما يقرِّبكم إلى ربكم، بالتزوُّد لآخرتكم
واجتهدوا في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3].
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري.
وهي في السبع الأواخر أقرب، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضَعُف أحدُكم أو عجز فلا يُغلبَنَّ على السبع البواقي) رواه مسلم.
وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين، لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال:
(والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين)
رواه مسلم.
فعظموها واعرفوا ما لها من عظيم الحرمة، فتعظيمها لازم لمن قال لا إله إلا الله،
و احترامها حق على من قرأ: “ذلك، و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه “.
واذكروا عباد الله أن هذه الأمة لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر،
فإذا لم يفعلوا سلط الله عليهم شرارَهم ثم يدعو خيارُهم فلا يستجاب لهم،
فانظروا عباد الله ما ادخر الله لكم في هذا الشهر الكريم من جزيل الثواب،
واعرفوا يا أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر نعم الله عليكم و قابلوها بالشكر والصبر والاحتساب،
فحسنوا عباد الله ختام شهركم وأحسنوا توديعه وافزعوا إلى الله بالتوبة النصوح،
واستعينوا على ذلك كله بالإكثار من الصلاة والتسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم،
اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق،
ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره و مقداره العظيم.
نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم وكلام سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه و سلم عدد الذاكرين و الغافلين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
الإصلاح