الاتحاد الأوروبي والاستقلال الاستراتيجي.. هل يتحقق واقعيا؟
في عالم مليء بالأزمات ومع تراجع دعم الولايات المتحدة، تريد دول الاتحاد الأوروبي أن تتحرك على الساحة الدولية وتتخذ قراراتها باستقلالية تامة. وإذاكان من السهل قول ذلك، فهل هذا ممكن على أرض الواقع حقا في ظل التوازنات الحالية؟
تنفست برلين وبروكسل الصعداء، حين عرفت نتيجة الانتخابات النصفية الأمريكية، حيث كانت خسارة الديمقراطيين لصالح الجمهوريين في مجلس النواب أقل مما كان يُخشى، وكانت تلك النتائج ضربة للرئيس السابق دونالد ترامب، الذي وصلت العلاقات عبر الأطلسي في عهده إلى أدنى مستوياتها.
لكن على الأوروبيين ألا يستعجلوا الاحتفال بذلك، يقول تورستن بنر مدير معهد السياسة العالمية العامة في برلين. وجاء في مقال كتبه لموقع DW “من المتوقع أن يدخل بايدن التاريخ كآخر مدافع عن العلاقات عبر الأطلسي في البيت الأبيض”.
وقريبا سينتهي زمن الدعم الأمني والسياسي السخي، مهما كانت هوية من سيأتي بعد بايدن إلى البيت الأبيض، لأن الولايات المتحدة ستركز في المستقبل على الصين أكثر بكثير.
استراتيجية الاستقلال في برنامج الحكومة الألمانية
أمريكا تدير ظهرها لأوروبا ببطء، والصين قوة عالمية تزداد عدوانية، وروسيا بوتين تهاجم دولة أوروبية مستقلة، هذا هو الوضع الجيوسياسي الجديد غير المريح بالنسبة للأوروبيين.
حرب أوكرانيا كانت مفاجئة للجميع تقريبا، لكن التطوران الآخران ليسا بجديدين. وقد تم بالفعل استخلاص النتائج في الاتحاد الأوروبي وعواصم مختلفة. وكإجابة على ذلك أطلقت عبارة “الاستقلال الاستراتيجي”. ويعني ذلك أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يتحرك ويتصرف عسكريا وسياسيا واقتصاديا بشكل مستقل عن اللاعبين الآخرين في السياسة الدولية.
كتب جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في مقال: إن أوروبا مهددة بأن تصبح “غير ذات أهمية”. ويدلل على ذلك بتراجع وزن أوروبا في العالم بقوله “قبل 30 عاما كانت حصة قارتنا ربع الرخاء العالمي. في غضون 20 عاما ستكون حصتنا من الإنتاج الاقتصادي العالمي 11 بالمائة كحد أقصى”. والاستقلال الاستراتيجي هو “قضية البقاء السياسي”.
وجاء في اتفاقية الائتلاف الحكومي في برلين لعام 2021 “نريد المزيد من الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا. (…) هدفنا هو اتحاد أوروبي مستقل كلاعب قوي في عالم يتسم بعدم اليقين وتنافس منهجي”. إذن هناك شيء ما يحدث، سواء على المستوى الألماني أو الأوروبي.
انتقادات لـ “تهاون” ألمانيا!
لكن أين تقف ألمانيا والاتحاد الأوروبي على الطريق للوصول إلى ذلك، حسب مؤشر “الاستقلال الأوروبي” في مجالات حماية المناخ والدفاع والاقتصاد والصحة والهجرة والتقنية، الذي ينشره مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي(ECFR) ؟
فحسب المؤشر يتمتع الاتحاد الأوروبي بدرجة كبيرة من الاستقلالية في مجالي الاقتصاد والصحة، وبدرجة مرضية في مجال الدفاع وحماية المناخ والهجرة وبدرجة سيئة في المجال التقني، حيث يعتمد بشكل خاص في هذا المجال على الغير.
كما تم في يونيو 2022، تقييم كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي على حدة ومدى مساهمتها في استقلالية أوروبا. وقد حصلت ألمانيا على أفضل تقييم، ليس فقط لأنها قوية في كل المجالات، وإنما لأنها تستثمر في “قدرة الاتحاد على التصرف” وتتحدث وتعترف بشكل صريح وواضح بالسيادة الأوروبية.
لكنها تحصل على نقطة سالب كبيرة: فرغم قوتها الاقتصادية جاءت مساهمتها في استقلالية أوروبا اقتصاديا في المرتبة الخامسة على مؤشر (ECFR). “وهذا يعكس جزئيا تهاون ألمانيا بالنظر إلى الاعتماد على روسيا والصين”. ويقول معدو المؤشر: على ألمانيا التعلم من أخطائها الماضية في هذا المجال.
لا يشارك الجميع في تحقيق هذا الهدف الأوروبي
يرى هينينغ هوف من الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية، أن أوروبا ككل لا تزال بعيدة عن تحقيق هدف الاستقلال الاستراتيجي.
ويقول هوف: “في السياسة الخارجية والدفاعية، أظهرت الحرب الروسية ضد أوكرانيا أن الأوروبيين يعتمدون على الولايات المتحدة”، ويسري ذلك على الردع النووي والقوات العسكرية التقليدية. “ليس هناك شك، لو كان على أوكرانيا أن تعتمد على أوروبا فقط، لما كانت موجودة اليوم”.
وقبل كل شيء يتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الاستقلال العسكري لأوروبا. ومنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فرنسا هي القوة النووية الوحيدة في الاتحاد. وبالضد من ذلك، فإن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، حذر في مؤتمر برلين للأمن الذي انعقد في بداية شهر دجنبر، من استقلال أوروبا في مجال السياسة الدفاعية.
وقال ستولتنبرغ: “أنا لا أؤمن بأوروبا لوحدها، ولا بأمريكا لوحدها، فقط حلف الناتو يمكن أن يضمن الأمن”. وذكّر بأن دول الاتحاد الأوروبي تساهم فقط بـ 20 بالمائة من نفقات دفاع الناتو، و80 بالمائة تأتي من دول أخرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وتركيا.
كما أن الأوروبيين منقسمون بشأن الاستقلال العسكري، حيث ترى دول البلطيق وبولندا أنه ينبغي للولايات المتحدة والناتو أن يلعبا دورا أقوى في أوروبا.
ميهاي شيهايا، من مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، يعتقد أنه يمكن جمع المصالح المختلفة وكتب لـ DW “إن أوروبا أكثر كفاءة، يمكن أن تساهم في الأمن عبر الأطلسي وتكمل حلف الناتو”.
اهتمام الصين بالموانئ
هدف الاستقلال الاستراتيجي لا يتعلق بالأمن والدفاع فقط، وإنما يشمل كذلك التجارة والصناعة والمالية والاستثمار أيضا. وقد أيد الأوروبيون التعددية والتجارة الحرة ضد ترامب أيضا. وفي الأثناء يعترف بوريل بأن “التشابك الاقتصادي يصبح معرضا جدا للنزاع”.
وحسب اتفاقية الائتلاف الحكومي في برلين، فإن إمدادات الطاقة هي من المجالات التي تحتاج إلى حماية خاصة، وقد أوضحت حرب أوكرانيا ذلك بشكل جلي، وأظهرت مدى تبعية ألمانيا.
واليوم؟ هل تعلمت ألمانيا درسها؟ على سبيل المثال تتهم الانتقادات المستشار أولاف شولتس بأنه وبدون أن تكون هناك ضرورة، سمح باستحواذ شركة كوسكو الصينية على جزء من منفذ في ميناء هامبورغ، وبالتالي الدخول في التبعية التالية.
“وهنا على وجه الخصوص، كان يمكن أن يكون هناك جواب أوروبي أفضل، على سبيل المثال مبادرة الموانئ الأوروبية، التي يمكن أن تضمن عدم ابتزاز الشركات الحكومية الصينية ميناء ضد آخر مثلا”، يقول الباحث السياسي هينينغ هوف. ومن ناحية أخرى فإن الحكومة الألمانية أبعدت مستثمرين صينيين من صفقتين، حيث أرادوا شراء شركات إلكترونيات ألمانية.
التباعد الفرنسي الألماني
تقليديا، تعتبر ألمانيا وفرنسا شريكين وثيقين، وينسحب هذا على هدف الاستقلال الاستراتيجي أيضا. وورد أكثر من مرة في اتفاقية الائتلاف الحكومي أن فرنسا ترى نفسها حسب مصادر قصر الإليزيه “محرك الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي” وقبل كل شيء في مجال الدفاع.
وبالتحديد هنا يدب الخلاف. فمشروع انتاج الطائرات الحربية FCAS يتقدم ببطء، وحتى في مشاريع مشتركة أخرى يشعر هذا الطرف أو ذلك أنه قد تم تجاوزه.
ويضيف بأن المستشار أولاف شولتس “لم يعثر بعد على دوره في الساحة الأوروبية. وإذا لم يتم تضييق هوة التباعد بين ألمانيا وفرنسا قريبا، سيصبح الأمر صعبا بالنسبة لمسألة الاستقلال الأوروبي”.
ولا يزال هناك طريق طويل أمام الاتحاد الأوروبي أجمع، حسب رأي ميهاي شيهايا من مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، ويضيف “لكن الهدف واقعي وأعتقد أنه إذا أراد المرء حل المشاكل الأمنية الكثيرة القائمة، فلن يتبقى شيء آخر كهدف”.
المصدر: موقع DW بالعربية