الإنسان والأفكار – عبد الحق لمهى
بادئ ذي بدئ، فإن الناظر في حركة التاريخ، وتحديدا علاقة الإنسان مع الأفكار، يجد ان هذا الأخير أصناف متنوعة بين مؤمن بها عن قناعة ويقين تام، وآخر منكر جاحد لها بالجملة، وبين مؤمن بها منعته ظروف ما لإعلان ذلك، وبين معترف بها منعه كبرياؤه ونخوته الموهومة من الاعتراف والإيمان بها. وأحيانا يكون المانع خوف الملامة من الآخرين، ومن الأمثلة على ذلك: أبو طالب عم رسول الله عليه السلام، الذي جاءه ابن أخيه عليه السلام ذات يوم وهو على فراش المرض، فطلب منه عليه السلام أن يقول كلمة الشهادة حتى تكون حجة له عند الله يدخل بها الجنة.
وقد روى هذه القصة الإمام البخاري وغيره، أنَّ أبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِنْدَهُ أبو جَهْلٍ، فَقَالَ: أيْ عَمِّ، قُلْ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لكَ بهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أبو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ أبِي أُمَيَّةَ: يا أبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ! فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ، حتَّى قَالَ آخِرَ شَيءٍ كَلَّمَهُمْ بهِ: علَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عنْه. فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، ونَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
إن المتأمل في الحديث، يفهم منه أن عم نبينا لم يكن ينكر الرسالة المحمدية، “ولكن الذي كان يمنعه من اتباعه الملامة وحذار المسبة، أي: لوم قومه له وسبهم إياه”. بعبارة أخرى أن أبا طالب – على ما يبدو – لم يكن مشككا في الفكرة، ولكن ثمة عائقا “سيكواوجيا” حال دونه ودون الإقرار بها.
واستنادا إلى ما سبق يمكن القول بأن كثيرا من بني البشر اليوم في علاقتهم مع الأفكار مطلق الأفكار، وليست بالضرورة دين الإسلام، يحكمها هذا المنطق السالف الذكر، ويمكن تفصيل هذا الأمر كالآتي: -تجري حوارات بين بني البشر في قضايا مختلفة، يقدم من خلالها كل حجته ودليله على ما يراه صوابا، ومن ثمار ذلك النقاش قد ينجلي الغبار عن الحقائق، فتصير واضحة وضوح الشمس في كبد النهار، ولكن مع ذلك يبقى المحاور المدحوض الحجة على فكرته الأولى لم يمنعه من قبول والاعتراف بما ظهر من الحق والصواب إلا كبره وعناده، وخوفه التعيير بالهزيمة حين الإقرار بصواب رأي المخالف، وكذلك جرت سنة الله في خلقه. ودونك في هذا السياق حوار ابراهيم مع قومه في قضية عبادة الأصنام، وكيف أنه دفع حجتهم في ألوهيتها، يقول تعالى ” فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون ،قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُ ،”
وجوابهم: قد علمت ما هؤلاء ينطقون، فيه اعتراف بصحة رأي ابراهيم عليه السلام، وبطلان معبوداتهم المزعومة، ومع هذا كله بقوا مصرين على سلك مسلك عبادة الأصنام . مع مرور الزمن وتبني الإنسان لأفكار معينة، لا شك أنه من خلال التفاعل مع الأفكار الأخرى، يتأكد لنا في مرحلة ما، إن كانت الأفكار التي نحملها واهية، لا حجة قوية تدعمها، وجب علينا فتح عقولنا لمراجعة من نظن يقينا أنه الحق الذي لا مراء فيه، ولكن مع الأسف تحول العوائق السيكولوجيا لا “الأبستمولوجيا “دون إبصار الحقيقة ومراجعة المواقف والأفكار.
ولا شك أن هذا الأمر واضح لا ينازع فيه إلا من شذ عندهم القول، ومن ذلك كثير من التيارات الفكرية المعاصرة، وما آلت إليه اختياراتها الفكرية من البوار، بحيث أصبحت متجاوزة، بل أكثر من ذلك، أثبت التاريخ خطأ ما كانت تروج له وتدعيه وتعتقد أنه الحق المطلق، ولكن التاريخ ناقد بصير كفيل بإظهار عوارها، ومع هذا الفشل الفكري، ترى البعض يصر إصرارا أعمى على المضي قدما نحو الدعوة إلى أفكار، أقل ما يقال عنها أنها اجتهاد ثبت خطؤه، ينبغي الاعتراف بذلك والرجوع عنه، ولكن اجتماع العوائق “السيكولوجيا” و”السوسيولوجيا” تحول بين الأفكار ومراجعة الأفكار.