الإصلاح ومعية الله – عبد الحق لمهى
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسله لإصلاح ما فسد من أمر الناس، قال تعالى على لسان نبيه شعيب ” إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” [i]والصلاة والسلام على آخر مبعوث لأداء رسالة الإصلاح.
وبعد،
فمن رحمته تعالى بالناس أجمعين أن بعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. قال تعالى” رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” [ii].
وشاءت حكمته تعالى في خلقه، تعرض هذه الدعوات، لمختلف أشكال الصدود والممانعة، ابتلاء منه تعالى للرسل والانبياء ليتعلم من خلالهم من شاء الله من أهل الايمان والإصلاح مما هم معهم وممن يأتون بعدهم إلى قيام الساعة.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام يمضي عمر طويلا، كان من أطول مدد دعوات المرسلين، صبر في ذلك صبرا جميلا في سبيل دعوته، فكانت النتيجة كفران من قومه لدعوته فما آمن معه الا قليل” حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ” [iii]
وهذا إبراهيم يلقى من قومه محاولة القضاء عليه، والتعرض لشخصه، لما كان يحمل من دعوة، قال تعالى ” قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ” [iv]
ولم يسلم الفتى النبي يوسف عليه السلام من الأذى في سبيل ثباته على الحق، قال تعالى ” ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ” [v]
فهذه، وغيرها ، صور من مقابلة دعوات الإصلاح بأشكال مختلفة تنوعت بين رفض الدعوة كما الحال مع نوح، وبين محاولة الاغتيال مع إبراهيم عليه السلام، والادخال السجن كما حصل مع يوسف عليه السلام.
واستناد إلى ما سبق، يمكننا الوصول إلى نتيجة مفادها أن مسيرة الإصلاح على مر التاريخ لم تسلم من مقاومة وممانعة قوية وكبيرة. هذه حقيقة واضحة جلية لكل ذي بصر وبصيرة ألقى السمع وهو شهيد.
إن الإنسان المبصر بحركة التاريخ يلاحظ كيف أن الإصلاح بما هو أداء لواجب الرسالة الربانية عاش ويعيش صورا من المواجهة متعددة الوسائل والاستراتيجيات، تضافرت فيها الأقلام المغرضة المعدة لهذا الغرض تكتب وتسخر قلمها، بكل قوة وشراسة ، لا يغمض لها جفن حتى تختلف شبهة أو حدثا تروم من ورائه التشكيك في مصداقية وصحة ما جاء عن الله من الرسالات إلى الناس، وعززتها بعض وسائل الإعلام التي مكن لها وصارت تملك قوة التأثير في الرأي العام فهي لا تتوانى في نشر كل ما من شأنه الإسهام في حمل الناس عن الصدود عن رسالة الأنبياء والمصلحين, وربما أقحم ذوو الجاه والمال في معركة مواجهة دعوة الحق ولو ظاهرا على أن باطن إسهامهم الحفاظ على مصالحهم ونفوذهم.
ويبقى السؤال المطروح، بناء على ماسبق، ما السبيل إلى النجاة؟ وما الطريق الموصل إلى التغلب على هذه الأمواج العاتية من الوسائل المعدة لطمس معالم وأثر كل دعوة إصلاح؟.
مما لاشك فيه أن مقابلة هذه المسارات التي سلكت في سبيل اجتثاث جذور رسالة الله إلى الناس، تتطلب وعيا عميقا بالخلفيات الموجهة والأسس المرجعية والوسائل المعتمدة لكل مسلك من تلك المسائل، عندها يستطيع من تصدر للدفاع عن دعوة الإصلاح الوصول إلى أنجع السبل في إحدات تدافع حضاري مؤسس على قواعد سليمة تمكنه من إصلاح الأرض.
كما أنه يمكن القول، بأن أشكال التدافع مع دعوات التكذيب والصدود عن الدعوات الإصلاحية متعددة المسالك والمداخل منها ما هو تربوي عقدي، ومنها ما هو فكري ثقافي،وما هو اقتصادي سياسي…
لقد رسم القرآن معالم وسبل التدافع الحضاري من أجل إعلاء الحق وإصلاح الأرض قال تعالى ” وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” [vi]
ومن الطبيعي بعد هذا التحليل السابق، أن ينتظر القارئ ، ما يستقر عليه الرأي طريقا وسبيلا يهتدى به في سبيل النجاة والتغلب على دعوات الإفساد، وعليه نقول إن الطريق ـ من بين طرق كثيرة ـ هو ما ذكره القرآن الكريم حكاية عن نبي الله موسى عندما لا حقه فرعون يريد التخلص منه ومن دعوته ومن تبعه في ذلك ، فقال تعالى ” فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ “[vii]
جاء في تفسير الطبري:وقوله: “كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين” قال موسى لقومه: ليس الأمر كما ذكرتم, كلا لن تدركوا إن معي ربي سيهدين, يقول: سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه.“[viii]
لقد رسمت الآية معلما من معالم الطريق، وهو استحضار معية الله عندما تدخل دعوة الإصلاح مرحلة المواجهة ومحاولة حمل الناس على خلافها.
وأخيرا، لقد حاولنا تقديم قراءة لواقع دعوات الإصلاح بدءا بما عاشه الأنبياء والرسل وما تلاها من التجليات التاريخية لمحاولة مجابهة دعوة الحق، وما السبيل ،من بين السبل ، الذي يمكن السير عليه كلما تجددت علامات الإعراض عن دين الله.
******
[i]ـ هود، 88.
[ii] ـ النساء، 165.
[iii] ـ هود، 40
[iv] ـ الأنبياء، 68.
[v]ـ يوسف، 35.
[vi] ـ البقرة. 251.
[vii] ـ الشعراء، 61.62.
[viii] ـ تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابي جعفر محمد بن جرير الطبري، الجزء السابع عشر، ص 581.