الإدريسي يكتب: فِي قيمة المسؤولية – 7 –
كثيرةٌ هي الدساتير التي تضمنت بندا من بنودها، وهو: “ربط المسؤُولية بالمحاسبة” وهو أمر محمود خصوصا إذا تم تفعيل هذا البند، في محاسبة أي مسؤول أخل بواجباته بغض النظر عن موقعه أو نفوذه، خصوصا إذا اتُّهم بالفساد المالي أو الإدارِي أو الأخلاقي، غير أن تنزيل هذه القاعدة يبقى قاصرة لأنها لا تجعل الرقابة الإيمانية والمحاسبة الأخروية حاضرة، ولذلك نجد بعض المسؤولين إذا استطاع أن يتحايل على القوانيين، فإنه لا يتوانى في استغلال مركزه لمصالحه الخاصة، ولو بطريقة غير مشروعة.
ولهذا نجد العديد من رُؤساء وقادة دول العالم المتحضر الذي يعتبر عنوانا لربط المسؤولية بالمحاسبة، بمجرد ما يتنحى الرَّئيس أو المسؤول عن السُّلطة، إلا وتبدأ -في غالب الأحيان- فضائح الفساد والتزوير وخداع الشعب ومخالفة القوانين والأخلاق تطفو على السطح، وتتصدى وسائل الإعلام للتشهير لأن -هؤلاء المسؤولين- لم تتمثلوا قيمة المسؤولية الحقة، ويمكن أن نستحضر قصة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أو ساركوزي، وغيرهم من المسؤولين باختلاف مستوياتهم ومراتبهم…
غيرَ أن قيمة المسؤولية من المنظور القرآني تجمع بين المُحاسبة في الدُّنيا والمحاسبة في الآخرة، ثوابا أو عقابا، ترغيبا وترهيبا، لأن فلسفة الجزاء الإلهي تنبني على هذه الثنائية العادلة، لأن الثواب والعقاب مرتبط بأداء المسؤوليات اعمالا أو اخلالا، فمن قام بمسؤولياته حق القيام، على الوجه الأكمل، استحق الثواب والنعيم، ومن أخلَّ بمسؤولياته، وغش فيها، استحق العقاب والجحيم، والقرآن الكريم يربط بين المسؤولية والنية، لأن جوهر المسؤولية في الرؤية القرآنية هي النية التي تحررها من اتباع الهوى، أو التقصير في أدائها، أو الغش في تحمل تبعاتها ومقتضياتها.
والمسؤولية مصدر صناعي من كلمة (مسؤول)، وهي تعني كل عمل التزم به الإنسان، ويقوم بإنجازه وأدائه ماديا ومعنويا، وبالتالي يسأل عنها في الدنيا والآخرة سؤالَ حساب، وبالتالي فللمسؤولية أربعة أركان سؤال ومسؤول وسائل ومسؤول عنه، ولم ترد لفظة المسؤولية في القرآن بهذه الصيغة، ولكن ورودها في القرآن بمعناها كثير ومتنوع جدًّا، بل إن مفهوم قيمة المسؤولية من أكثر المعاني ورودا في القرآن المجيد، لأن الله تعالى أناط بالإنسان أمانة الاستخلاف في الأرض إعمارا وإصلاحا.
ولذلك كان التأسيس القرآني لقيمة المسؤولية أكثر عمقا وشمولية واستيعابا، حيث ربط القرآن قضية المسؤولية بقضايا الأخلاق والحرية والكرامة والأمانة والإرادة والعقل، الذي هو أساس التكليف، ومناط المسؤولية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر» (أخرجه أبو داود وصححه الألباني).
إن القرآن الكريم هو كتاب تحرير الإنسان من كل القيود المادية والمعنوية، في إطار من المسؤولية الشاملة، وفي ذلك نصوص كثيرة جدا، نقتصر على بعضها، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ سورة الأحزاب، الآية: 72، في هذه الآية الكريمة نجد الأمانة تدل دلالة واضحة على قيمة المسؤولية بمعناها الواسع والكبير، فقد جاءت مرادفة لقيمة الأمانة ، وفي قول الله عزوجل: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ سورة الإسراء، الآية: 34، أمر إلهي يفيد وجوب تحمل مسؤولية الإنسان في الوفاء بالعهود والالتزامات والمواثيق. أما في قوله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ سورة الإسراء، الآية: 36، ففي الآية دلالة واضحة وصريحة على مسؤولية الإنسان عن جوارحه، فهو محاسب على ما اكتسب بها أما قوله عزوجل: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ سورة الأعراف، الآية6، تتضمن فكرة العدالة الإلهية، لأن المحاسبة على المسؤوليات تشمل الرسل وأقوامهم.
والقرآن الكريم يراعي الجبلة التكوينية للإنسان، حيث يشترط الشرط الأساس والوحيد في تحمل المسؤولية الإرادة والقدرة، فلا تكليف فوق طاقة الإنسانية ولامسؤولية تحت الاكراه أو التغرير ، ولذلك أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسّلام أن لا يعاتب الصحابي الجليل عمار بن ياسر، رغم أن نطقه بالكفر ، ولكن تحت التعذيب والاكراه، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ سورة النحل، الآية: 106،وفي حال العجز أو الضعف الخطأ أو النسيان تنتفي المحاسبة الأخروية، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ سورة البقرة: 283.
وعموما فالمسؤولية في القرآن الكريم مرتبطة بقاعدة التّكريم وأساس التكليف، وأنَّ الإنسان مسؤول في الدنيا والآخرة، وهي مسؤولية شخصية، وهي مسؤولية شامِلة لكل مانحي الحياة، وهذا ما أكده الحديث النَّبوي الشريف، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كلكم رَاع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته،، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده رَاع وهو مسؤول عن رعيته»، قال: فسمعتُ هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مَسؤول عن رعيته» رواه البخاري.