الإدريسي يكتب: فِي قيِمَة الحُريَّة -6-
في الحَقيقة وجدتُ حيْرة من أمرِي، من أينَ أبدَأ الحَديث عن قيمَة الحُرية، وكيف أقاربُ قيمة الحُرية باعتبارها قيمَة مركزيَّة ضمن منظُومة القِيم القُرآنية، لأن الحديثَ عن حرية الإنسان جد معقد وشائك، وفيه الكثير من المحاذير الفِكرية والعقَائدية والسِّيَاسية والإيديولُوجية، بالإضافة إلى صُعوبة الإحاطة بهذه القِيمة من خلال مقَال مقتضب كهذا، علمًا أن البشَرية اليوم تعيش تحديَّات كبيرة ومركبة، ومن بين هذه التحديّات قضية حُقوق الإنسان، والأكِيد أن جَوهر حقُوق الإنسَان: حرية الإنسان، بكل أشكالها وتمظهراتها.
فارتأيتُ أن أبدأ بقصة تُقرِّب الاستيعَاب الحَقيقي والدَّقيق لمفهوم الحُرية في المنظُور القُرآني، وتجسِّد التنزيل العُمراني والإحساني لهذه القيمة، وهذه القصة تتعلق بأمير المُؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أوردها الدكتور عبد العزيز بن إبراهيم في كتابه ( الوِلاية علَى البُلدان في عَصر الخُلفاء الرَّاشدين) حيث يقول: “أن عَمرو بن العَاص رضى الله عنه، عندما كان واليا على مِصر فى خلافة أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضى الله عنه، اشترك ابنٌ لعَمرو بن العاص مع غلام من الأقبَاط فى سباق للخَيْل، فضرب ابنُ الأمير الغلامَ القِبطي اعتمادًا على سلطان أبيه، وأن الآخر لا يمكنه الانتقام منه، فقام وَالد الغلام القبطي المضرُوب بالسفر بصحبة ابنه إلى المدينة المُنورة، فلما أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أن يحضر إلى المَدينة المُنورة صُحبة ابنه، فلما حضَر الجميع عند أمير المؤمنين عمر، ناول عمر الغلام القبطي سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفَى حقه وشَفا ما في نفسه، ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك، لأن الغُلام إنما ضربَك لسطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: متَى استعبدتُم النَّاس وقد ولدَتهم أمَّهاتهم أحْرارا؟.
هذه القِصة تتضمن العديد من القضَايا والمسَائل، ولكن الشَّاهد عندنا هو قول عُمر بن الخَطاب رضي الله عنه:” متَى استعبدتُم النَّاس وقد ولدَتهم أمَّهاتهم أحْرارا؟”، هذه القولة يمكن اعتبارها قاعِدة منهَاجية في الأبعاد الاجْتِماعية والسياسية والثقافية والعُمرانية لقِيمة الحُرية، لأن من بين المُقتضيات الأسَاسية لحُرية الإنسان المسؤولية والالتزام، والحق والواجب، والثواب والعقاب.
وبالرُّجوع إلى القُرآن الكريم فإننَا سنجد إشكَالا كبيرا يتعلق بحرية الفعل الإنساني في علاقتها بالمَشيئة الإلهية ، ودون الدخول في ثنَايا هذا الاشكال، لأن علماء الكلام قد أطالوا فيه الجدال والحِوار والتناظر بحسب السياقات التَّاريخية والسِّياسية والفكرية، وإنما المقصود عندي أصالة هو قيمة الحُرية بمفهومها القرآني ومضمونها التَّربوي وتمظهرها الاجتماعي، التي تجعل الإنسان قادرا على تحمل مسْؤولية تصَرفاته وأفعاله وقنَاعته وأفكَاره، وقَادرا على الاختيار واتخَاذ القرار، وهي بذلك تعني الحق في التفكير والاعتقاد والتعبير، والانتماء والتجمع والتنقل، وتوفير الحِماية اللازمة لضمان مُمارسة الحقوق والحُريَّات بشكل فَردي أو جمَاعي.
والقُرآن الكريم قد أسس لقيمة الحرية وأحاطَها بسائر الضَّمانات بما يقرب من مائتي آية، كما أكد ذلك الدكتور طه جابر العلواني، في مؤلَّفه (لا إكراه في الدين، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم)، ولذلك قرر القرآن المجيد بأوضح العبارات وأقوى الأساليب أن حرية اختيار الدين والمعتقد مكفُولة للإنسان، باعتبارها أساسا ومرتكزا لقيمة الحرية، يقول تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ سورة البقرة، الآية: 256، وقال جل وعلا:﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ سورة الأنعام، الآية: 107، ويقول سبحانه و تعالى:﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ سورة يونس، الآية:99، ويقول تعالى في الآية :28من سورة هود :﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾، وقال الحق تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ﴾ سورة الكهف، الآية: 29، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ سورة ق،الآية:45، ويقول الله تعالى في سورة الغاشية:﴿فَذَكِّر إِنمَا أنَتَ مُذكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ الآية: 22.
من مُنطلق هذه الآيات وغير هذه الآيات، نجدُ أن رسالة القرآن الكريم تنص صراحَة على مبدأ اللَّاإكراه وعدم الإجبَار على أي معتقد أو دين أو فكر، لأن الإكراه يناقض أصْل تكوين الإنسَان، على اعتبار أن الحُرية “وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المُزاحمة فحدث التحجير” على حد تعبير العَلَّامة الطاهر بن عاشور في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، والإجبَار يناقِض فلسفة الامتحَان والاختبار، لأن الحريةَ شرطٌ أساس للتكليف وترتيب الالتزامَات والجَزاءات.
وفي هذا السِّياق القُرآني نستحضر ما قاله العلَّامة محمد أبو زُهرة، في كتَابه (تنظيم الإسْلام للمجتمع):”احترم الإسلام حُرية الاعتقاد، وجعل الأسَاس في الاعتقاد هو أن يختار الإنسان الدين الذي يرتضيه من غير إكرَاه، ولا حمل، وأن يجعل أساس اختياره التفكير السليم، وأن يحمي دينه الذي ارتضاه، فلا يكره على خِلاف ما يقتضيه، وبذلك تتكون حرية الاعتقاد من عناصر ثلاثة أولها: تفكير حرٌّ غير مأسور بشيء سابق من جنسية أو تقليد، وثانيها: منع الإكراه على عقيدة معينة، فلا يكره بتهديد من قتل أو نحوه، وثالثها: العمل على مقتضى ما يعتقد ويتدين به”.
لقد تناول العُلماء والباحثون قديمَا وحديثا مسألة الحُرية بمناظير مُختلفة، ولكن تبقى مقَاربتها من منظُور قيمي في بدَاياته، وهذه دعوة صَادقة ومتواضعة للمُهتمين إلى الانكبَاب على هذه القيمة القُرآنية الحاكمة، وبذل الجهود فرديا ومؤسساتيا، في أفق صياغة تَصور قِيمي قرآني معَاصر لقيمة الحُرية، يستوعب المُشكِلات المعَاصرة، ويفتح آفاقا للإنسَانية في إطار الحُرية والمَسؤولِية.