الإدريسي يكتب: في قِيمَة الاخْتلاف -12-
تُعاني أمة القُرآن اليوم، ومُنذ ثلاثة قرون تقْريبا، من أزمَات مُعقدة ومشَاكل مركبة، أدت إلى نُكوصها وتقهقرها في سلَّم الرقي الحضَاري، دلّ على ذلك حال الهَوان والضّعف، والتّجزئة والتخلف، والتبعية والاستغلال، والفُرقة والصراع، ومن بين مظَاهر هذه الأزمَات وأسبابها في الوقت نفسه، غياب القُدرة على تَدبير الاختلاف في المَجال العام أو المجَال الخاص، وفي الكثير من المؤسسات والفضَاءات، وهذا راجع بالأساس إلى عدم إدراك حقيقة هذه القيمة المركزية، والسُّنة كونية والسِّمة الحضارية، والسؤال المطرُوح كيف يمكن استثمار هذه القيمة لتكون مقوما من مقوِّمات الوعي الحضَاري، ووسيلة لرأب الصدوع بين مكونات عَالم المُسلمين؟.
لقد ميَّز القرآن المجيد بين قيمة الاختلاف باعتبارها مظهرًا للتنوع الثقَافي والعرقي والفكري واللغوي واللِّسني داخل كل أمَة أو مجتمع، والتي ينجم عنها بالضرورة التَّعارف والتعايش والتعدد والتكامل، والتي تسهم في تمتين شبكة العلاقات داخل المجتمع الواحد والأمة الواحدة، والمحافظة على وحدته وتماسكه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ سورة الحجرات ،الآية :13 ،وبين ظاهرة الخلاف الأعْوج الأهوَج الذي يكون سببًا في الصّراع والنزاع، ومن مظاهره الاستعلاء والاقصاء، والاستكبار، والعنف المَادي والرمزي، والاستبداد الفكري والسّياسي.
ولذلك جاءت آيات القُرآن الكريم لتؤطر هذه القيمة المِحورية، بمجموعة من الضَّوابط والتوجيهات، والقواعد والآليات، حتى لا تتحول من اختلاف محمود مقبول، إلى اختلاف مذموم مرفوض، في استحضار تام لحقيقة الاختلاف باعتباره ظاهرة فطرية واجتماعية وثقافية وفِكرية، ومنه فإن القرآن الكريم اعتبر الاختلاف في اللغة أو اللون أو الشكل أو العرق أو.. اختلافا تكوينيا ، لا يمكن تدبيره إلا بتقبُّله والاعتراف به وبصَاحبه، لأنها من الخصائص التكوينية التي جَبَل الله تعالى النّاس أجمعين ،قال سبحانه تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾سورة الروم، الآية 23، فلا أحد منا اختار جنسه أو لونه أو مكان ولادته، وإنما توجَّه القرآن العظيم رأسا إلى الاختلاف الفكري، والتباين في الرؤى والتقديرات، ووضع مجموعة من المعايير التي تجعَل هذا الاختلاف مدخلا للاكتشاف ثم الاعتراف، ومن ثم إلى الائتلاف، دون أن يكون هناك أي إكراه أو اجبار، لأن الاختلاف مظهر من مظاهر الحرية، التي دافع عليها القُرآن الكريم بكل تمَظهراتها وتجلياتها.
وبالتالي فالمقصُود عندي بالاختلاف في هذه المَقالة: هو مطلق التَّباين في الأفكار أو الآراء بين طرفين أو أكثر بسبب من الأسباب الذَّاتية أو المَوضوعية، وفي هذا السياق نؤكد أن اختلاف وُجهات النظر، أو التباين في اتخاذ بعض المَواقف وتبني بعض القرارات أمر طبيعي وصحي، ولا يفسد للوُد قضية، بشرط وضعه في إطار النّسق القُرآني، الذي جعل الحياة الاجتماعية قائمة على التنوع والاختلاف ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ سورة هود، الآية:118.
غير أن القرآن العظيم نبَّه إلا أن الاختلاف الناجم عن الهوى أو العناد والجُحود يفضي بشكل مباشر إلى التنازع والصراع ، وضياع الحقائق، وغمْط الناس، يقول تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ سورة البقرة، الآية: 213، وفي آية أخرى يحذر المؤمنين من خطورة هذا النوع ، لأنه يؤدي إلى ذاهب الريح والفشل في مواجهة التحديات، ومقاومة الانحرافات، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ سورة الأنفال، الآية: 46.
ومن الضوابط العلمية والآليات العملية التي دعا القرآن الكريم إلى الاتزام بها، حتى يحقق الاختلاف مقاصده النبيلة وغاياته الرشيدة، تقبل الرأي الآخر والفِكر المخالف، يقول تعالى: ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ الآية : 24 من سورة سبأ، وكذلك آلية التَّفاوض بماهي تبادل للكلمات بدل اللكمات، والمجادلة بالتي هي أحسن، يقول تعالى ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ سورة العنكبوت الآية :46، وضرورة الاستناد إلى الدليل والبرهان، يقول رب العالمين:﴿ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ سورة البقرة، الآية:111 ، بالإضافة إلى آلية التحكيم، التي تتخذ أشكالا عديدة ومتنوعة حسب ظروفها التاريخية وسياقاتها الاجتماعية والمؤسساتية، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ سورة النساء، الآية: 59.، هذه الآليات وغيرها وجب تطويرها حتى تواكب المستجدات، وتستوعب التحولات التي تعرفها الأمة والبشرية.
إن الالتزام بهذه الآليات، بالإضافة إلى التحلي بآداب الاختلاف (أدب الاختلاف في الإسلام) د. طه جابر العلواني، هذا الأمر سيجعل الاختلاف في الآراء والأفكار ظاهرة صحية تغني العقل المسْلم المعاصر، وتسهم في معالجة الخَلَل الفكري الذي أصابه المتمثل في العصَبية والطائفية والانْغلاق، ويخرجه من دائرة الجدال العقيم والعنف السقيم، إلى دائرة الحوار الخلاق والاختلاف المحمود، لأن الاختلاف أصل الحوار، كما أكد ذلك الدكتور طه عبد الرحمن (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي).
إن القُرآن الكريم وهو يؤَسس لقيمة الاختلاف، يدعو من آمن به باعتباره وحيا نزَل به جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلى عدم التَّنازع حول مرجعيته العُليا وسمو رؤيته للعالم وهيمنته على الوجود ، لأن ذلك مفض إلى الشقاق والفتنة يوق تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ سورة البقرة، الآية: 176، ويقول أيضا تعالى:﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ سورة الجاثية، الآية: 17.