الإدريسي يكتب: في قيِمَة التَّقوَى -5-
يُدَافع الدكتور فضل الرحمَن مالك في كتابه (المسَائل الكُبرى في القُرآن الكريم) على ضرورَة التمييز في علم الأخلاق القُرآنية بين القيم الكُلية الحاكمة والأحكام الإجرَائية أو الوسَائل، ويدعو إلى ضرورة توضيح العلاقة بينهما في بناء النِّظام الأخلاقي و القيمي، وفي هذا السّياق أكد بأن “قيمة التقوى” من المفاهيم التأسيسية للأخلاق القرآنية،لأن التَّقوى في نظر فضل الرحمن ترتبط بالإيمَان بالآخرة، الذي يشكل أساسًا عقديا وقناعة تصورية للمسلم، فتصير قيمة التقوى هي القيمة الناظمة للأخلاق في الإسْلام، لأنها بصيرة الإنسَان بأفعاله ظاهرًا وباطنًا، ومصباح يفرّق به بين الخطأ والصواب، وهي حساسية تزداد بممارستها.
أما العلَّامة أحمد الريسوني فقد أكد في كتابه الفريد (الكُليات الأسَاسية للشريعة الإسْلامية)، بعد أن أحال على كتاب الدكتور محمد عبد الله دراز (دُستور الأخْلاق في القُرآن)، كون “التَّقوى” هي الفضيلة المَركزية في نظام الشَّريعة الإسلامية، حيث يقول: «قد جرى العُرف على تسمية القوانين الأخلَاقية بحسب العنصر الغَالب في مضمونها: فرديًّا أو اجتماعيًّا، شريعة عدْل أو شريعة رحمة، وهكذا … وليس شيء من هذه الصِّفات ذات الجانب الواحد، بمناسب هنا، فيما يبدو لنا، إن هذه شريعة توصي “بالعدل” و”الرحمة” معًا، وتتواثق فيها العناصر الفردية، والاجتماعية والإنسَانية والإلهية على نحو متين، بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية أو عن الفضيلة الأم التي تتكاثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم “التَّقوى”، وإذن، فما التقوى، إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع ؟”.
ولذلك جاءَت الكثير من الآيات القُرآنية توصي بالتَّقوى وتأمر بها ،وتحثّ على الاتصاف بها ، باعتبار أمومتها لسائر الفضائل الخلقية، والمناقب السلوكية، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ سورة النساء الآية: 131، وقد وردت لفظة التقوى في القرآن المجيد ومشتقاتها فيما يقرب من ( 250 موضعا ) ، وهذا يدل على مركزية قيمة التّقوى، بل إن القرآن الكريم جعلها ثمرة لكثير من التّشريعات و العبادات، قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ سورة البقرة الآية :(183).
يقول الدكتور فريد الأنصاري، معلقا على هذه الآية: “والتقوى مقام إيماني رفيع، هو في نفسه منازل ومقامات! تنبض مشكاته أولا في القلب، ثم تنتشر أنوارها وتفيض على سائر الأعضاء والجوارح! فإذا صفت زجاجة الإيمان بالقلب كان للتقوى ضياؤها وتوهجها، وإلا فلا! ومن ثم قال سيدي الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: “التقوى ههنا” وأشار إلى القلب، أورد ذلك في كتابه (مجالس القرآن مدارسات في الهدى المنهاجي للقرآن الكريم من التلقي إلى البلاغ) ج3.
وقد تنوعت تعريفات العلماء والباحثين للتقوى، كل حسب مرجعيته ومنهجه، والكل يجمع على أن التقوى مفهوم شامل، وقيمة مركزية، ومبدأ جامعا، يقول الأستاذ فتح الله كولن في كتابه (التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح):” التقوى معنى شامل وعام إلى حد أنه يشغل مساحة واسعة جدا من المعاني، فمن المحافظة على آداب الشريعة بكل دقة وأمانة.. إلى رعاية قوانين الشريعة الفطرية.. إلى وقاية الإنسان سره وخفيه وأخفاه من الشرك…وبهذا المعنى الواسع جدا تصبح التقوى هي المصدر الوحيد لقيمة الإنسان وكرامته.
وقد أشارت الآية الكريمة من سورة الحجرات ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ الآية:13. يقول العلامة عبد الله كنون الحسني في كتاب (تفسير سور المفصل من القرآن الكريم):” فكيف يتميز بعضهم عن بعض والأصل واحد؟﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ أي فإن كان لا بد من كرامة زائدة في بعض الناس فإنما هي كَرامة التقوى والعمل الصَّالح لا كرامة الجِنس والأصل والحسَب والنسب، وفي الحديث “كلكم من آدم وآدم من تراب”.
وهذا المعنى نفسه بينه وأكده الحبيب عليه الصلاة والسلام بقوله في إحدى خطبه: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله” رواه الإمام أحمد.
إن قيمة التقوى تُعتبر مفتاحا من أهم المفَاتيح لفهم النسق القيمي القرآني من جهة، وللإحسان في تَنزيل منظومة القيم القُرآنية من جهة أخرى، من خلال مقَاربة تكاملية، تضمن سموا في المشَاعر والقناعات ورُشدا في الأفعال والتّصرفات، وفي الوقت نفسه تضمن رساليَّة المُؤمن وإيجابياته في كدْحه الاجتماعي والإصْلاحي في هذه الحَياة.
من هنا إذ فإن قيمة التقوى تطبع وجدان المؤمن، لأنه متخلق بحقائقها، ملتزم بمقتضياتها، كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في الأثر المنسوب إليه: “التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل” أورده الإمام الصالحي في كتابه (سبل الهدى والرشاد)، ويقول الدكتور أحمد الريسوني في الكتاب السَّالف ذكره:” هذه التقوى، حينما تنعدم أو تنهزم، تسود المغالبة والمخادعة، والاستكبار والاستئثار، والاستبداد والإفساد، وحينها تشتد الحاجة إلى كثرة القوانين والتدابير الزجرية، وكثرة الاحتياطات والمحاذير، وكثرة الولاة والقضاة، وكثرة المحاكم والمحاكمات، وكثرة الأجهزة الأمنية والوسائل الردعية، والمؤسسات الرقابية”.
إن قيمة التَّقوى عاصمة من كل انحِراف أو انجراف، لأنها تضمن صِدق الظاهر مع الباطن، وتوافق القول مع الفعل، وانسجام الوجدان مع الأركان، وبالتَّالي تحفظ المجتمع من تلك الازدواجية المتناقضة، التي تهدد كينونته وحاله ومآله، ولذلك كان الأمر الإلهي عاما مؤكدا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ خَبِيرٌ﴾ سورة آل عمران الآية، 102، بل وأمَر بها إمام المُتقين وسيد المرسلين نبيه محمدا على الصلاة والسلام، قال تعالى في الآية الأولى من سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.