الإدريسي يكتب: في قِيمَة الشُّورَى -11-
المُتدبِّر لكتَاب الله تعالى، سيتضح له بجَلاء أن قيمة الشُّورى حاضِرة بمضمُونها ومُقتضياتها في التَّوجيهات والأحكَام القرآنية المُؤطرة لشبَكة العَلاقات الاجتمَاعية في عالم المسلمين، من الوَحدة التَّأسيسية والتِّي هي الأسْرَة، إلى كل الوَحدات الأخرى المشَكِّلَة لنسيج المجتمع والأمّة، رغم أن لفظة الشّورى لم تُذكر في القرآن المجيد إلا ثَلاث مرات فقط، بالإضَافة إلى تسمية سُورة من سوره بالشّورى، وفي ذاك المَاحٌ إلى مركزية هذِه القيمة في النَّسق التَّربوي والاجتمَاعي والفِكري لمَرجعية الأمّة.
غير أن عُلماء الأمَّة لم ينتبهوا إلى هذه القِيمة باعتبارها آلية لتدبير الاختلاف واتخاذ القرار في أبعادِه السياسية والإدارية والاجتماعية لتدبير شؤون المسلمين، ولم يتبلور عندَهم بشَكل تأصِيلي وفكري ومنهجي، إلا بعد صَدمة الاستعمار والبَحث في التّراث الإسْلامي عن مفهوم الدّولة وآليات التّداول على السّلطة، وكيفية اتخاذ القرارات وتحمل المَسؤوليات، خُصوصا بعد تفَوق نموذج الديمقراطية في الغرب، حيث استطاعَت المُجتمعات والدول الغَربية تدبير مُشكلاتها واستيعَاب التنوع والتعدد والاخْتلاف عبر فَلسفة وآلية الدِّيمقراطية، بل وأسهَمت هذه الأخِيرة في تَحقيق التَّنمية والرَّفاهية، فطَفق رُواد الإصلاح ومُنَظرو النهضة بالتأليف والتَّصنيف في موضُوع الشورى، وعلاقة الشورى بالديمقراطية، وأيهما أقدر على تدبير الاختلاف الذي يتحول في بعض الأحيان إلى صِراع ونِزاع.
وأغلب المُفكرين والبَاحثين يؤكدون أن الشُّورى قيمة أصِيلة في منظومة القيم القُرآنية، دلَّ على ذلك ما حَوته الآيَات من حثٍّ على الالتزام بها، وتوفير الشُّروط الذاتية والمَوضُوعية لكي تحقق الشورى مقَاصدها وأهدافها، دلَّ على ذلك أيضا التَّجربة المرجعية والنموذجية للنَّبي عليه الصلاة والسلام، الذي تمثل قيمة الشورى في مسيرته الدعوية ووظيفته التربوية ومهامِّه القيادية، رغم أنه مُسدد بالوحي، ومؤيد بالعِصمة، لكنه عليه السلام كان حريصا على إشرَاك أصحَابه وزَوجاته، في الكثير من القَرارات المَصيرية، وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يَنزِل عند آرائهم، وفي ذلك تأكيدٌ منه عليه الصلاة والسلام، على أنَّ الشّورى تُمارس في كل المُستويات والمُؤسسات ، والقَاعدة الذهبية تقول: ما ندم من استشار، ولا شقي من استخار.
قلتُ: إن القرآن الكريم تضمن ثلاث آيات فقط، هي التي تُحيل على قيمة الشورى لفظًا، أما المعنى فدونك العشَرات من الآيات، وهذه الآيات هي:
- ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ سورة الشورى، الآيتان: 37، 38.
- ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ سورة آلِ عمران الآية: 159.
- ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ سورة البقرة ،الآية: 233.
وقبل تِبيان المفهوم القرآني لقِيمة الشورى، نؤكد بأن الدَّلالة اللغوية للشُورى، تفيد أخذ الشّيء من شيء، وأخذ الرأي بعد ابدائه واظهاره، أما الدلالة الاصطلاحية، فقد عرفها الأصفهاني بقوله:” استخراج الرأي لمُراجعة البعض للبعض” وعرفها الدكتور محمد أبو فارس بقوله: الشورى : “تعني تقليب الآرَاء المُختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضَايا واختبارها من أصحَاب العقول والأفهَام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج”، ويمكن القول بأن الشورى هي إشراك أهل الرأي المجيد في اتخاذ القَرار الرشيد والاختيَار السَّديد.
أما المعنى القرآني لقيمة الشورى فيتخذ أبعادا أكثر رحابة وتوسعا واستِيعابا، ففي هذه الآية:﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يقرن الله سبحانه وتعالى بين الشورى والصَلاة والإنفاق، بل هذه من الآيات النادرة التي تم فيها الفَصل بين الصَّلاة و-الزكاة-الإنفاق، وهذا يدل على مركزية الشّورى في بناء المجتمع المؤمن وتلاحمه، بل يُعتبر تمثُّلها والالتزام بها، نوعا من أنواع الاستجابة للنداء القُرآني، أما الآية ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ الأخرى فهي تتضمن صيغة الأمر الذي يُفيد الوُجوب، وسياق هذه الآية أنها نزلت بعد غزوة أُحد التي عَرفت اهتزازا لكِيان الأمة، ذلك أنك خروج المسلمين من المدينة إلى غزوة أحُد كان بعد أن تشبث الكثير من الصحابة بهذا الرأي، فنزل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى رأيهم ، فكانت نتيجة أحُد المعلومة.
وفي الآية الثالثة ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ يتبيَّن أن الشورى قيمة تؤَطر حياة المُؤمن الخاصة والعامة، فالقرآن المجيد يُرشد إلى تمثل قيمة الشُّورى في كل القرارات، ولو في قرار فطام الرضيع.
بهذا الاعتبار، لا يُعدّ المجتمع الذي يهمل الشورى مجتمعًا متكامل الإيمان، كما لا تُعدّ الجماعة التي لا تعمل بها جماعة مسلمة بالمعنى الكامل. فالشورى في دين الإسلام أساس حياتي لابد للرؤساء وللمرؤوسين من إجرائه. فالرؤساء مكلّفون بالاستشارة في السياسة والإدارة والتشريع وأمور كثيرة تتعلق بالمجتمع، والمرؤوسـون مكلّفون ببيان رأيهم وفكرهم فيها للرؤساء، كما أشار إلى هذا الاعتبار الأستاذ محمد فتح الله كُولَن في كتابه:(ونحن نقيم صَرح الرُّوح).
ولا شك أن تمثل قيمة الشورى بمضمونها القرآني، ينقل الأفراد والمجتمع من مجرد استخراج الرأي الصواب، إلى تحقيق مقاصد الشورى الكبرى والمتمثلة أساسا في منع الاستبداد والطغيان، وكذا إشاعة جو الحرية والمبادرة وتنمية القدرة على التفكير والإحسان في التدبير، وبالتالي فإن الشورى ستتوسع لتشمل القضايا الدينية والدنيوية والفردية والجماعية، الشيخ أحمد الريسوني (الشورى في معركة البناء).
والمتتبع لما كُتب حول قيمة الشورى تأصيلا وتنزيلا سيجده جد قليل، أخذا بعين الاعتبار ما تعيشه الأمة من استبداد فكري وقمع سياسي ومصادرة الحقوق، بالإضافة إلى راهنية هذه القيمَة في تدبير المُشكلات الأسرية والاجتمَاعية، ولذلك ندعو إلى توسيع مفهوم قيمة الشورى، وعدم الاقتصار على مَجال دُون باقي المجالات، وهذا لن يتأتى إلا من خِلال اضطلاع النخب الفكرية والعُلمائية بدورها الحضاري التَّنويري، في ترسيخ قيمة الشورى في حياة المسلمين، سَواء أكانت مُلزمة أو مُعْلِمة، ولن تكون مؤلمة إذا تم تفعيل مضمونها القرآني.